قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب, وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.
فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خلقوا أفعالهم.
وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور].
المقصود بـ (الطبع) هنا: الطبائعيون الذين يزعمون أن الطبيعة بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها، أو أن الطبيعة ركبت على أنها تحدث أحداثاً ليس لله عز وجل فيها دخل، أو الذين يرون أن الأمور تنبني على ما طبعت عليه، وهم صنفان: الأول: الذين يرون أن الطبيعة هي الخالق، وهي المخلوق، ولا فرق في ذلك، وعلى هذا فهم يرون أنها بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها.
الثاني: وهو المقصود هنا، وهؤلاء يزعمون أن الكون ركب على طبع، أي: أنه ركب على نظام، وهذا النظام يجعله يسير نفسه بنفسه، دون أن يكون للرب عز وجل فيه دخل، أو أن بعض أجزاء الكون ركبت وطبعت على أنها تنشئ أفعالها أو أفعال غيرها من دون تقدير الله، وهذا التصور نتج عنه -حينما دخل على بعض فرق الأمة- اعتقاد بأن هناك من المخلوقات من يدبر مع الله عز وجل، وأنه يستقل بشيء من أفعال الخلق أو أمور الخلق من دون الله، فبعضهم أحال ذلك على النجوم والكواكب، ومنهم من أحال ذلك على الأشخاص، كالأئمة الذين يقدسونهم بعض الناس، فجعلوا لهم تدبيراً في الكون جزئياً أو كلياً، أو الذين يقدسون الأولياء، إذ زعموا أن الأولياء يدبرون الكون أو بعض الكون، بل إنهم صنفوا الأولياء إلى أصناف، فزعموا أن القطب والغوث يدبر الكون كله، وأن من دونه من الأوتاد -أحياناً يقولون: أربعة أو اثنا عشر أو أربعة ثم اثنا عشر- يأخذ ربعاً من أرباع الكون يدبره.
والمهم أن منشأ الفلسفة واحد، وهو اعتقاد أن هناك من يدبر الكون مع الله عز وجل، وهذا خلل في توحيد الربوبية، وبالتالي نتج عنه بالضرورة الخلل في توحيد الإلهية؛ لأن من زعم أن ثم مخلوقاً يدبر مع الله لاشك أنه سيصرف له شيئاً من العبادة من دون الله.
قال رحمه الله تعالى: [فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة].
كلمة (الصانع) هذه استعملها الشيخ رحمه الله على غير القاعدة التي يقول بها ويقول بها السلف، وكان المفروض أننا لا نورد كلمة (الصانع) إطلاقاً، وإنما يقال: الخالق، لكن الشيخ أورد مصطلحاتهم ليقيم الحجة عليهم، وقد فعل ذلك في كثير من مؤلفاته التي قصد بها الذين ابتلوا بالنزعة الفلسفية والنزعة الكلامية؛ لأنهم يستعملون هذه الكلمات أو العبارات، بل إن بعضهم قل أن يصف الرب عز وجل بصفاته، بل يقول: الصانع، وعلى هذا فإن الشيخ ربما أراد التنزل معهم في هذا المصطلح وغيره حتى يحرجهم، أو يبين وجه الباطل عندهم، أو استدراجهم إلى استعمال مصطلحاتهم حتى يأخذوا بالحق، أو يقبلوا به، ولا يعني هذا أنه يجوز لنا استعمال مثل هذه المصطلحات، ولذا أقول: من كشيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي لمثل هذا المقام، بأن يستعمل مصطلحات القوم لهدم أصولهم؟ إن هذا يندر أن يرقى له طالب علم، أو متخصص، ولذلك ينبغي أن تتفادى هذه المصطلحات؛ لأن لها معاني لا تليق بالله عز وجل، فينبغي أن يقال: الخالق بدل الصانع.
ولذا من الخلط والتهور الذي يقع فيه كثير من طلاب العلم أنهم يستعملون أساليب استعملها شيخ الإسلام للرد على أهل الأهواء، مع اختلاف الحال والمقام والقدر، سواء كانت أساليب كلامية أو مناهج أو طريقة الدعوة أو طريقاً لهم في الحجة أو أساليب عملية تنفيذيه، فنقول: إذا الواحد منا وصل إلى مثل مقام شيخ الإسلام ابن تيمية، في سعة علمه، وقدراته العقلية، وقوة حجته، وإلزامه للخصوم، واحترام الخصوم له، فقد كان خصومه من أكثر الناس ثناء عليه واعترافاً بفضله، وهذه قل أن توجد في التاريخ، وأنا قد وجدت فعلاً أن أكثر من أثنى على شيخ الإسلام، واعترف له بسعة العلم، والمقدرات الراقية في العلم والتعامل، هم خصومه كـ السبكي وغيره، وعدد من الشافعية والمالكية والأحناف، ومن الفرق، كالأشاعرة وغيرهم، عند ذلك لا مانع أن يستعمل بعض أساليب العلم، وهذا ما أشرت إليه في أول كلامي عند حديثي عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فقد قلت: إن بعض الناس الآن يقلد على غير جدارة، ويأتينا بأ