قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره].
هذه قاعدة عظيمة جداً، وفيها إشارة إلى أن الخلق والأمر يجتمعان، وعلى هذا فقد جمع الشيخ الشرع والقدر في فصل واحد، والقدر له وجهان: من حيث كونه من تقدير الله وخلقه، فهذا مرتبط بالربوبية، ومن حيث التسليم به والرضا، فهذا داخل في التوحيد الإلهي، أي: توحيد العبادات، وأدخله المصنف هنا في توحيد العبادات ليبين ضرورة الارتباط بين القدر والشرع؛ لأن مبنى الشرع على التسليم، والتسليم هو تسليم بقدر الله، ومما قدره الله عز وجل الأمر بشرعه، وإبعاث الرسل، وإنزال الكتب، وهذا قدر كوني تضمن الأمر الشرعي، بل تقسيم ابتلاء العباد إلى خير وشر ابتلاء كما قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء:35]، فهذا قدر، ثم تقسيم حال العباد إلى صلاح وفساد، إلى حق وباطل، إلى هدى وضلال، تقدير من الله بقدره، ثم إن الشرع الذي انبنى على ذلك هو الأمر، فتوافق الأمر والقدر، أعني: توافق الشرع والقدر، وكلاهما من أمر الله.
ووجه إدخال القدر هنا هو الذي انبنى عليه الشرع تقديراً، ومن حيث أن كلاهما داخلان في مفهوم الأمر، إذ إن الأمر بمفهومه العام يدخل فيه الأمر القدري والأمر الشرعي، وأيضاً لضرورة ارتباط الشرع بالقدر؛ لأن مبنى العمل بالشرع على التسليم، والتسليم يشمل القدر والشرع في وقت واحد، فمن سلم للقدر ولم يسلم للشرع هلك، ومن سلم للشرع ولم يسلم للقدر هلك، ولذلك غالب أهل الأهواء اختل عندهم أحد المبنيين، فمنهم من سلم للقدر ولم يسلم للشرع التسليم الكامل، ومنهم من سلم للشرع ولم يسلم للقدر، ويمكن أن نجد هذا في تقسيم الفرق الكبرى، فقد كان منها من هو أكثر ضلالة في الشرع، ومنهم: المرجئة والخوارج وكثير من أصحاب الطرق والفرق الصوفية، ومنهم من كان خلله في اعتقاد القدر، ومنهم: القدرية والمعتزلة والجهمية، وقد اجتمع عند الجهمية الأمران؛ لأن الجهمية هي خلاصة مذاهب الفرق في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني، بل وحتى القرن الثالث، فالجهمية بدأت من ناحية فلسفية ثم انتهت إلى فلسفة وسلوك وأعمال، فكان في القرن الثالث أن اجتمع الأمران عند الجهمية، فاختل عندها الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، وبقية الفرق كل واحدة لها نصيب يقل أو يكثر من الخلل بالأصلين جميعاً أو بأحدهما.