قال المصنف رحمه الله تعالى: [وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول].
يعني: من هذه الأصول العقلية، وحدوث العالم بمعنى: حدوث المخلوقات، وهذا مقرر عقلاً، وهو الذي يوصلنا إلى وجود الخالق، وإلى وحدانيته وإلى أسمائه وصفاته، وأن العلم بالخالق -قال الشيخ: بالصانع- لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وهذا مسلك فيه وجه حق ووجه باطل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها].
وجه العلاقة أنهم زعموا أن من أقوى الأدلة على إثبات وجود الله عز وجل وجود المحدثات، أي: المخلوقات التي لابد لها من محدث، وهذا المحدث لا بد أن يكون غير المحدث، فلابد أن يكون أكمل وأعلم وأقوى إلى آخر الصفات التي تلزم من وجود الحادثات، وهذه القاعدة فرعوا عنها تفريعاً باطلاً، وهو: أنه إذا قلنا: بأن الله عز وجل له أفعال، فالفعل حادث بزعمهم، وعلى هذا فإن الله عز وجل حدث فيه حادثات، فاتصف بصفات الناقص وهو المخلوق، ومن هنا نفوا الأفعال، وهذا خلط، فالحق أن أفعال الله عز وجل راجعة إلى أسمائه وصفاته الثابتة، لا إلى مفردات الأفعال، وأوضح مثال لذلك: صفة الكلام لله عز وجل، وهي صفة ثابتة له عز وجل، لكن مفردات الكلام هي تحت مشيئته، ومفردات الكلام ليست هي صفة الكلام، وإنما هي فعله على ضوء صفته الأصلية، وكذلك بقية الأفعال، فكل الأفعال مفرداتها هي كمال لله عز وجل، ولا يعني: أنها حادثة، وإنما هي ناتجة عن صفاته الثابتة له، فمثلاً: صفة الخلق منبثقة عن كونه عز وجل هو الخالق، حتى قبل أن يوجد الخلق، وبعد أن يوجد الخلق، فهو متصف بصفة الخلق منذ الأبد وإلى الأزل وإلى ما لا نهاية، وكونه يخلق متى شاء لا يعني أنه حدثت له صفة الخلق كما يزعمون، بل هذا راجع إلى المشيئة، فمتى ما شاء خلق، ومتى ما شاء تكلم، وكذلك بقية الصفات، ولذلك أنكروا كل الصفات الفعلية، وبعضهم أنكر جميع الأفعال وجميع الصفات أيضاً، كالمعتزلة، وبعضهم أنكر الأسماء والصفات بناء على شبهات كثيرة، من ضمنها ما سبق من شبهة التجسيم، ومن ضمنها: مسألة: إخراج قضية الحدوث والحادثات عن مسارها الشرعي الفطري الصحيح.
وقول الطحاوي رحمه الله: (وليس بعد وجود الخلق استفاد اسم الخالق).
هذه قاعدة شرعية عظيمة، وهي رد على أهل الأهواء والبدع، فالله عز وجل متصف بصفة الخلق، ومسمى بالخالق قبل أن يوجد الخلق، وكذلك بقية الصفات المتعلقة بالحادثات، فهو عليٌّ قبل أن يستوي على عرشه سبحانه، ولم يحدث العلو بعد خلق العرش، وكذلك بقية الصفات الفعلية، فليست مبنية على وجود الأفعال، بل هي صفات أزلية لله عز وجل، والأفعال من آثارها، بل من أفعال الله عز وجل، ومن صفات الله عز وجل، ما تتعلق به أفعال الله إلى ما لا نهاية، مثل: صفة الكلام لله عز وجل، فالله عز وجل متكلم، وقد كلم آدم، وكلم موسى، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، ويكلم من شاء من خلقه، وأوحى لمن شاء من خلقه، وكذلك يكلم العباد يوم القيامة، فقد ثبتت النصوص بأنه يكلمهم كلاماً عاماً وكلاماً خاصاً، وأنه يحادث ويناجي كل إنسان بمفرده، وكل ذلك راجع إلى صفة واحدة، وهي صفة الكلام لله عز وجل، وكونه يتكلم متى شاء لا يسمى هذا حدوث نقص، بل على العكس، فهذا كمال، فالمتصف بصفات الكمال التي تتجدد مفرداتها وحادثاتها أعظم من المتصف بصفة لا يفعل بها شيئاً، فالله عز وجل فعال لما يريد، وأفعاله متعلقة بمشيئته سبحانه، وهذا هو الحق الذي تقتضيه الفطرة والعقل السليم، لكنهم أتوا من تقرير القضايا الغيبية بالعقل، والعقل مسكين لم يدرك نفسه بعد، لذا لو أن إنساناً يتباهى بعقله فسألته: أين عقلك؟ وكيف تعقل؟ وهل يمكنك أن تعرف لي عقلك، وماهية عقلك؟ فإنه لا يستطيع أن يجيب، فإذا كان لا يعرف عقله، فكيف يريد أن يسلط عقله على قضايا أكبر منه، كقضايا الغيب، وقضايا تتعلق بالله عز وجل سبحانه؟ إن من أعظم الإساءة وسوء الأدب مع الله أن تقحم عقلك المسكين الضعيف المحدود في قضايا تتعلق بكمال الله سبحانه، ولذلك نجد هذا الصنف من الناس ليس عندهم ورع، وليس في قلوبهم -فيما يظهر من أقوالهم وأفعالهم التي أُثِرت- شيء من تقوى الله عز وجل؛ لأنهم لو اتقوا الله ما تكلموا في الله.
ومن هنا أحب أن أنبه على أمر قد كررته كثيراً؛ لأنه مرض قد وقع فيه بعض طلاب العلم، وهو: أننا عندما ندرس مثل هذه القضايا التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، وهي أعظم ما تتطلبه العقيدة، وأعظم مباني العقيدة، وأول أركان الإيمان، فإن مقصدنا من ذلك هو أن نعظم الله بها، وليقع موقعها في قلوبنا، فتتأثر بها جوارحنا وأعمالنا، ومعاملتنا مع ربنا ومع الخلق، وهذا هو الذي يجب أن يكون، ولذلك نتفادى الخوض في المسائل العقلية والفلسفية الزائدة عن حد الحاجة، وأيضاً كثيراً ما أصرف بعض