الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زلنا في القاعدة السادسة، وقد بدأ الشيخ يرد على شبهات المعطلة والمؤولة، وتذرعهم بالتجسيم في نفيهم للصفات أو تأويل الصفات، وقد بدأ هذا الأمر بقواعد واضحة نوعاً ما، وقد قمنا بدراستها، لكن بعد ذلك دخل في نقاش عميق، وفيه أحياناً استعمال للأصول والمصطلحات الفلسفية والعقلية، والتي هي أشبه بالمحارات والأسلوب العسر، ولذلك سنستغني عن القراءة الآن في هذا المقطع الذي أمامنا حتى نصل إلى القاعدة السابعة.
لذا سألخص لكم مقاصد الشيخ في رده على أولئك القوم الذين نفوا الصفات أو أولوها، بدعوى أنها تقتضي التجسيم أو التشبيه.
فبعد أن تكلم الشيخ عن دعواهم بأن إثبات بعض الصفات -حتى العلو- يقتضي التشبيه، وأن هذا ليس بحق، وأن مسألة تماثل الأجسام لا تعني أن هذه القاعدة مطردة من كل وجه، وأن التماثل غير التشبيه، وأنه قد ينفى التمثيل ولا ينفى التشبيه أيضاً؛ لأن المماثلة غالباً تعني المطابقة من كل وجه، أو من أغلب الوجوه، وهذا لا يليق في حق الله عز وجل، أما المشابهة فهي معنى عام، فقد يعني التشابه اللفظي، أو التشابه المعنوي العام دون التشابه الحقيقي الذاتي، ولذلك فرق الشيخ بين التشبيه والتمثيل، وقال: إن أي مماثلة الله لخلقه، أو مماثلة الخلق لله عز وجل أمر لا يجوز بإطلاق جزئي ولا كلي، وأما المشابهة فهذه كلمة لابد أن نفصل فيها، فمثلاً: المشابهة اللفظية موجودة من غير مماثلة الله عز وجل، فقد وصف نفسه بأنه عليم، وأنه خبير، وأنه حكيم، بل وصفه جميع العقلاء بذلك، ومع ذلك العلم والحكمة موجودة في الخلق، فهذا تشابه لفظي، وقد يوجد فيه -كما سيقول الشيخ- اشتراك معنوي جزئي أيضاً، لكنه في المخلوق ناقص، وفي الخالق كامل، ومن ذلك أيضاً: العلم، فالله عز وجل بكل شيء عليم، وعلمه لا يحيط به شيء، وعلمه لا حد له سبحانه، فهو صاحب العلم الكامل المطلق، لكن ومع ذلك فالله عز وجل وهب لبعض خلقه علماً، وهذا العلم هو من علم الله، وهنا يوجد شيء من التشابه النسبي الضئيل، لكنه بالنسبة للمخلوق علم ناقص ومحدود، ويعتريه جميع عوارض النقص والضعف، بينما العلم في حق الله عز وجل كامل لا محدود له، ولذا فهذا التشابه الجزئي لا يعني المشابهة المنفية، ولا يعني المماثلة التي نفاها الله عز وجل في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهذا ما سيدور عليه الكلام التالي، يقول الشيخ: (وأصل كلام هؤلاء كلهم) أي: سواء يقصد بذلك المعطلة، أو الصفاتية الذين منهم المعتزلة الذين نفوا الصفات، أو الأشاعرة الذين أولوا الصفات، إذ إن الصفاتية تشمل كل من أثبت الصفات بما فيهم أهل السنة والجماعة، لكن هو الآن لا يرد على أهل السنة والجماعة، بل هو الآن يثبت مذهب أهل السنة والجماعة، ويرد -على قواعدهم- على الصفاتية الذين وافقوا الجهمية في بعض الأمور، يقول رحمه الله تعالى: (وأصل كلام هؤلاء -الجهمية أولاً، ثم يتبعهم المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، أي: أن قاعدتهم التي انطلقوا منها في النفي أو التأويل- على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم) أي: عندما نثبت صفة فكأننا جسمنا الله عز وجل، فهذه قاعدة باطلة؛ لأن إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم، ولأننا عندما نثبت الصفات لله عز وجل فإننا نثبتها بالقواعد التالية؛ لأن الله أثبتها لنفسه، وهل يثبت الله لنفسه المماثلة والتجسيم؟ لا، وهذا أولاً.
ثانياً: أننا نثبت الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله، ونحتاط بأن ننفي كلما يشعر بالنقص أو الاستنقاص أو المماثلة لله عز وجل.
ثم بنوا على هذه القاعدة حكماً نهائياً هو في غاية البطلان، فقالوا: إذا لزم من إثبات الصفة الجسمية، فمعنى هذا: أن الأجسام لابد أن تكون متماثلة، وكأننا إذا أثبتنا لله عز وجل صفة اليد أثبتنا التجسيم، وإذا أثبتنا التجسيم فالأجسام متماثلة بين الخالق والمخلوق، وعند ذلك نكون قد مثلنا الله بخلقه.
وهذا كله باطل، ولذلك هذا التقعيد الباطل يخفى على بعض الناس الذين لا يعرفون موازين الحق؛ لأنهم يسلمون بذلك دون أن يشعروا، حتى وإن كان القائل من أهل الاستقامة والخير، فإذا لم تكن عند المسلم موازين تحصنه من مثل هذه المفاهيم فإنها تدخل مخه، وإذا لم تكن عنده قدرة على التمييز سيظن أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وعلى هذا من أثبت الصفة فقد أثبت المماثلة بين الله وبين خلقه، فهذا هو ملخص هذه النقطة.
ثم قال رحمه الله: (ولهذا يقول هؤلاء -أي: الذين قرروا التشبيه والمماثلة بزعمهم، أو الذين نفوا الصفات أو أثبتوها-: إن التشابه لا يمكن أن يكون من وجه، أو أن يقع من وجه ويختلف من وجه، فالشيئان لا يشتبهان من وجه، ويختلفان من وجه) يعني إما أن يشتبهان تماماً، وإما أن يختلفان تماماً، وهذه مكابرة أيضاً للعقول.
وكل كلامه هذا هو في معرض الصفات، فهم يقولون: أي شيئين -ما يسمى بشيء من الموجودات، من وجود عالم الشهادة ووجود