قال رحمه الله: [ثم لما صار على أكثر من الأمة ما صار -يعني من ترك الصراط المستقيم، والانحراف عن الهدي المستقيم هدي النبي صلى الله عليه وسلم- أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم] ، وهذا هو دأب الشيطان -أعاذنا الله وإياكم منه-؛ فإنه يأتي للمؤمن ويظهر له الطاعة بثوبٍ قبيح تنفر منه النفس وتزهد فيه، وتنصرف عنه، ويأتي إلى البدعة والمعصية فيكسوها أجمل الحلل، ويبهرجها ويزخرفها بأحسن الزخارف، حتى يقبل عليها من ضعف إيمانه ولم يرسخ يقينه، وأما أهل الإيمان والبصائر فإنهم لا تغريهم هذه المظاهر، بل ينظرون إلى الأمور بالبصيرة التي يمنّ الله سبحانه وتعالى بها على المتقين، فيفرقون بين الحق والباطل، ولا تختلط عندهم هذه الأمور، بل هي عندهم في غاية الظهور، فالشيطان يظهر الشرك بمظهر محبة الصالحين، ويظهر الداعين إلى التوحيد بأنهم لا يحبون الصالحين ولا يعظمونهم حق تعظيمهم، فإذا جئت إلى رجلٍ وقلت له: يا أخي! لا تتوجه إلى القبر في الدعاء، وتوجه إلى القبلة، واسأل ربك الذي يملك خزائن السماوات والأرض جلّ وعلا، ولا تسأل هذا المقبور الذي لا يملك لنفسه حولاً ولا طوْلاً قال: أنت لا تعرف قدر الصالحين، ولا تقدر أولياء الله.
وهذا في الحقيقة من جهله، وأنه لم يقدر الله حق قدره، ولو قدر الله حق قدره ما توجه إلى مقبور بين التراب، ولتوجه إلى رب الأرباب، لكن لضعف يقينه وقلة بصيرته انطلت عليه هذه الصورة، وجعل تعظيم أهل القبور والصالحين بالانحناء لهم والركوع أو السجود، وغير ذلك مما يفعله أهل الشرك، وكل هذا مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يوقع في الشرك، والواجب على المؤمن أن يبعد نفسه عن كل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقع المؤمن في شيء من هذا فإن الشيطان سيزيِّنه له، لكن إن راجع المؤمن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح سلم من هذه الشبه.
وليعلم أنه لا أحد أعظم اتباعاً للكتاب والسنة من رجل جعل الله عز وجل قصده ومعبوده، ولم يصرف إلى غيره نوعاً من العبادة، فليحذر المؤمن من الشيطان، فإنه يأتي إلى هؤلاء ويزين لهم الشرك، ويقول لهم: هذا ليس شركاً، إنما هذا من إجلال الصالحين ومن تعظيمهم.
وحتى ينفرهم من دعوة التوحيد يقول: هؤلاء إنما يدعون إلى تنقص الصالحين والوقيعة فيهم، ولا يعظمونهم ولا يقدرونهم حق قدرهم.
وهذه شبهة ضعيفة لا تنطلي إلاّ على ضعاف العقول.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم] ، والصحيح أنها غلو في الصالحين، ومجاوزة للحد، وإلاَّ فالمؤمن لا يقع في هذا ولا يقرب منه، بل لا يعظم إلاّ ما عظمه الله ورسوله.
ثم إن محبة الصالحين عبادة، لكن لا يجوز أن يتجاوز المؤمن في هذه العبادة حدها حتى يقع في الشرك، هذا هو الأصل الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هذه الأصول الستة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.