والشفاعة العظمى -كما ذكر علماء السنة- أنها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي خصه الله به، يغبطه عليه الأولون والآخرون، وتكاد أحاديث الشفاعة تتواتر، وما نفاها إلا بعض الخوارج والمعتزلة، وبعضهم ينفي البعض منها ويثبت البعض.
ومجمل قضية الشفاعة حينما يشتد الأمر على الخلائق، وتدنو منهم الشمس -كما في الحديث- مقدار ميل، وهل هو ميل المكحلة أو ميل المسافة؟ الله أعلم.
يشتد الموقف على الجميع حتى يلجم الناس بالعرق؛ منهم من يكون إلى صدره أو ترقوّته أو ركبته حفاةً عراة غرلاً، وتقول أم المؤمنين: (واسوأتاه يا رسول الله! أيجتمع الرجال والنساء حفاةً عراة وينظر الرجال إلى النساء؟! قال: يا عائشة الأمر أخطر من ذلك، كلٌ مشغول بنفسه) .
فيموج الناس بعضهم في بعض ويتمنون فصل القضاء والنهاية ولو إلى النار، فيقول بعضهم إلى بعض: ألا تذهبون تستشفعون إلى ربكم، فيأتون آدم: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته إليك، وأسكنك الجنة، وعلمك الأسماء، ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم عليه السلام: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، وقد نهاني ربي عن الشجرة فأكلت منها فأستحيي أن أسأل ربي شيئاً، اذهبوا إلى نوح، فيأتون إلى نوح: يا نوح عمرك الله في قومك، ونجاك بالسفينة، ألا ترى ما نحن فيه؛ اشفع لنا عند ربنا لفصل القضاء.
فيقول: أما أنا فقد استعجلت بدعوتي فدعوت على قومي فأهلكهم، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه قبله مثله، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إلى إبراهيم ويستشفعون به.
ويذكر إبراهيم عليه السلام الكذبة التي قالها، ويقول بعض العلماء: ليست بكذبة؛ لأنه لما جاء إلى مصر وأراد ملكها أخذ سارة، فلما علم ذلك وخاف عليها قال لها: إن سألك فقولي هذا أخي، وأنا أخوك في الإسلام.
إذاً: ليست بكذبة، والله سبحانه أكرمها وكشف عنها الشر، ولما علم ذلك الملك وعرف مكانتها ومنزلتها وأخدمها جارية وأهداها غنماً وإبلاً، والجارية هي هاجر، وسارة وهبتها لإبراهيم فيما بعد، وإبراهيم رزق منها بإسماعيل، وإسماعيل عليه السلام هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الكتب للملوك يدعوهم إلى الإسلام كتب إلى المقوقس ملك مصر، وكانت الإسكندرية عاصمتها آنذاك، فأكرم رسول رسول الله، وسأله المقوقس وقال: أليس تقول: إن محمداً نبي؟ قال: بلى، قال: لم لم يدع على قومه حينما أخرجوه ليلاً في هجرته، قال: ألست تقول: عيسى نبي، قال: بلى، قال: لِم لَم يدع على قومك حينما أرادوا صلبه؟ قال: إنك رجل حكيم، ثم قال: أخبر رسولك أني أومن به، ثم أراد أن يعلن ولكن خاف من بطارقته، وأهدى إلى رسول الله جاريتين وغلاماً وبلغةً وكسوة وطيباً وعنبراً، فأعطى النبي إحدى الجاريتين لصحابي، واختص بـ مارية القبطة التي رزق منها بـ إبراهيم.
بهذه المناسبة يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيراً؛ فإن لهم ذمة ورحماً) ، يحفظ صلى الله عليه وسلم حق قطرٍ بكامله في رحم امرأةٍ واحدة.
نرجع إلى إبراهيم وإلى ذاك الموقف العظيم، حينما يموج الناس ويذهبون إلى آدم ويردهم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وكلٌ يعتذر، فيقول إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون إلى موسى فيعتذر، ويقول: لقد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروح منه، فيأتون إلى عيسى فيعتذر، ولم يذكر ذنباً، ثم يقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (أنا لها، أنا لها، فآت فأسجد تحت العرش فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعرفها من قبل ولم يلهمها أحد قبلي، فأحمد الله ساجداً ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع؛ فأقول: أمتي أمتي) .
والرواية الأخرى لـ أحمد وغيره: (فيأذن المولى سبحانه وتوضع الموازين، ويأتي المولى ويبدأ الحساب والعرض) ، وهذه هي الشفاعة العظمى والمقام المحمود؛ لأنها شفاعة لفصل القضاء بين الخليقة كلها، وهو مقام يغبطه عليه الأولون والآخرون.