وبعد ما رتب الأمر مع الحكام، ورسم المنهج للعدالة، جاء للرعية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) أولاً، ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فوقع عطْف وتكرار في الفعل: أطيعوا وأطيعوا وعندما ذكر (أُوْلِي الأَمْرِ) لم يأت بفعل الطاعة؛ لأن طاعة الله طاعة مستقلة، وطاعة رسول الله طاعة مستقلة، ولذا قد ينفرد صلى الله عليه وسلم بتشريع حلال أو حرام في السنة النبوية.
فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، وجاء الرسول بالسنة وقال: (لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، فهذا تشريع مستقل من السنة، فأولو الأمر يطاعون ولكن ضمن طاعة الله وطاعة رسوله.
وهنا فريقان: حكام أُمروا أن يحكموا بالعدل، ومحكومون أُمروا أن يطيعوا، وقد يقع النزاع بين الطرفين، وحينئذٍ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] .
(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) ، هذا الفصل وهذا الموقف يرتبط بالإيمان بالله، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، لأن الحاكم إذا لم يؤمن بالله ويصدق بكتاب الله ويعمل به فما هو برادٍ إليه، وكذلك الرعية إذا لم تؤمن بالله وبكتاب الله فلن ترجع إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله.
(إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: تجازون على أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: الرد إلى الله وإلى رسوله خير من الذهاب يميناً ويساراً.
وهنا كما يقول العلماء: الرد إلى الله معناه الرد إلى كتاب الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب كل واحد منا، ولا أحد منا عنده أهلية وصلاحية ليخاطب الله، فالرد إلى الله أي: إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بأن نأتيه شخصياً ونعرض عليه قضيتنا ونحكمه فيها، ومن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى نرد الأمر إلى سنته.
فبإجماع المسلمين أن الرد إلى الله أي: إلى كتابه، والرد إلى رسوله أي: إلى سنته.