يقول بعض شراح هذا الحديث: قدم (إذا أمسيت) على (إذا أصحبت) ؛ لأن المساء محل الغفلة والنوم، والصباح محل الحركة، فأحرى بك في المساء ألا تتحرى الصباح، فإذا أصبحت ولديك شيء من العمل فلا تنتظر المساء، فلو كان عندك واجب في النهار فلا تؤخره إلى الليل، وانتهز فرصة النهار قبل أن يأتي الليل، لأنك لا تدري أتدركه أم لا؟ وجاء في بعض الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) .
الإنسان يجب أن ينتهز ويغتنم فرصة الشباب؛ لأن أمامه هرم، والهرم هو الكبر في السن، فإذا كنت في شبابك لا تعمل، فماذا ستفعل في هرمك؟ إذاً: من لم يغتنم شبابه، ويدخر فيه لوقت الهرم ضيع نفسه.
ولذا يقول العلماء في موضوع الحج في باب الاستطاعة: من ليس عنده مال، ولكن عنده صنعة، ويستطيع أن يرافق القافلة، ويعمل ويكتسب ويأكل حتى يصل إلى مكة بكسب يده مع القافلة، فإنه مستطيع مادياً.
يقول النووي: ويشترط الشافعي أن يكون أجر عمل يومٍ يكفي لنفقة يومين، أما إذا كان عمله في اليوم لنفقة يوم واحد، فليس بمستطيع، فلعله يمرض، واليوم الذي يمرض فيه يموت من الجوع، لكن إذا كان أجر يوم واحد يكفي لنفقة يومين، فيمكن أن يمرض يوماً أو يومين في الشهر أو في الأسبوع، ويبقى عنده مال مدخر، وهكذا أنت في شبابك، إذا لم تدخر في شبابك ما ينفعك في هرمك، فماذا تفعل؟ والدول تتعامل (بالتقاعد) ؛ لأنها استغلت العامل والموظف مدة شبابه وقوته، فلما جاءه الكبر أحالته على التقاعد، ولم تتركه.
وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه رأى عجوزاً ذمياً يتكفف السؤال، فقال: ما شأنك يا رجل؟! قال: أنا من أهل الذمة وكلفت بالجزية، قال: ما أنصفناك، كلفناك شاباً، وتركناك شايباً، لا، وأسقط عنه الجزية، وفرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه.
إذاً: اغتنم شبابك قبل هرمك، وهذه قضية منطقية عقلية، لكننا لسنا في باب المادة، فالله سبحانه قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، ولكن نحن نعمل للآخرة، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ القرآن كله في ليلة، فدعاه فقال: اقرأه في شهر؟ قال: إني أستطيع أكثر من ذلك قال: اقرأه في عشرين ليلة، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، وهكذا حتى نزل معه إلى ثلاثة أيام) وهو يقول: إني أستطيع أكثر من ذلك، أي: غداً يأتيني الكبر ولا أقدر أن أقرأ، فكان يغتنم شبابه لهرمه، وكان يستطيع أن يصلي شيئاً من الليل، ويستطيع أن يصوم بعض الأيام، ويستطيع أن يكتسب ويتصدق، فلما جاءه الهرم عجز.
(وصحتك قبل مرضك) والصحة والمرض شيء بيد الله، ولكن يفوت على الإنسان شيء كثير مع المرض، ومن فضل الله على المسلم أنه إذا كان يعمل في صحته من أبواب الخير ويداوم عليه فمرض أو سافر وعجز عن ورده، أمر الله الملائكة أن تكتب له مدة مرضه وسفره ما كان يعمل في الصحة والإقامة حتى يعافى أو يرجع إلى بلده.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهل يقبل الله منك وأنت معافى، ثم أنت مريض يتخلى عنك؟ لا والله! فهو أكرم الأكرمين.
وكذلك (غناك قبل فقرك) ، إذا كان المال معك، فانتهز أبواب الخير، أنت لا تدري ماذا يصير؟ سبحان الله! وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل كم من إنسان بات في القمة، وأصبح في الهاوية، أي: فما دام بيدك المال، وعندك الغنى، ووفرة المال، فافعل الخير، ولعل الخير الذي تفعله يحفظ لك مالك.
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير بين الله والناس وقوله: (وفراغك قبل شغلك) ، هذه نصيحة نقدمها لطلبة العلم قبل كل شيء، عليه أن ينتهز فراغه للتحصيل قبل أن يخرج من الدراسة إلى الحياة، ويواجه المشاكل العملية، فهو في فترة الدراسة متفرغ لها، وبعد ما يتخرج ويأخذ الشهادة ويخرج إلى ميدان الحياة يشغل، وأول شاغل يلقاه الزوجة والأولاد، ولذا كان بعض السلف يقول: (ذبح العلم بين أفخاذ النساء) ، وقد تكون الزوجة تعين طالب العلم على دراسته، لكن مشاكل الأولاد ضريبة لابد أن تؤديها في طريق الحياة، ويفرض عليك أن تشغل بما ليس من طلب العلم، وقد يكون عملك لطلب العلم، ولكن ليس كوقت التفرغ، ولهذا يروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يقول: لا ينبغي لإنسان أن يتولى القضاء أكثر من سنتين قالوا: لماذا؟ قال: مخافة أن ينسى العلم، لأن مشاكل الناس تنسي العلم، ولكن الآخرون يقولون: كلما زاول القضاء كلما تمكن فيه وتمرس، وعرف طرق الخصوم.
وقوله (وحياتك قبل موتك) ، الحياة أمامك، ولكن الموت ليس عندك وليس بيدك، فالمولى سبحانه وتعالى قدر لكل أجل كتاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
إذاً: على العاقل أن يغتنم هذه الأمور الخمس، وقد جاء في الحديث الصحيح: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به) .
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يوفقنا وإياكم للعمل بما علمنا، وأن يتقبل منا، وأن يعاملنا سبحانه بلطفه وكرمه، وإحسانه، فما أضعف الإنسان وما أطول الأمل! وما أوسع فضل الله سبحانه وتعالى! وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.