بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فعلى كل أمة أن توفر طلبة للعلم ينقطعون لذلك أداءً للواجب على الأمة، ومن نفع العلم لصاحبه ما جاء في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، والعلم الذي ينتفع به ما حصل به النفع ولو مسألة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله) ، وكقوله: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) .
وسبب ورود حديث: (الدال على الخير كفاعله) أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يطلبه أن يعينه ويساعده، فدله على آخر، فلما ذهب إليه فساعده قال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) .
ومن هنا أجمع العلماء على أنه ما من مسلم في الإسلام إلى يوم القيامة يكتب له في صحيفة حسناته حسنة إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها في صحيفته؛ لأنه الدال عليها، وهكذا طالب العلم، وما دل عالمٌ جاهلاً على مسألة له فيها أجر إلا وكان لهذا العالم مثل أجر العامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) .
ويذكر الذهبي في ترجمة عروة بن الزبير أنه اجتمع هو ومصعب وعبد الله وكلهم أبناء حواري رسول الله الزبير بن العوام، ومعهم عبد الله بن عمر، فاجتمعوا في الحجر في ظل الكعبة، فقالوا فيما بينهم: تمنوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال مصعب: أتمنى إمارة العراق، وقال عروة بن الزبير: أتمنى أن يأخذ الناس العلم عني، وتمنى ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة.
يقول الذهبي عن راوي هذا الخبر: وقد نال كل واحد منهم أمنيته، فنال عبد الله الخلافة، ونال مصعب الولاية على العراق، ونال عروة جمع العلم والحديث ونرجو لـ عبد الله بن عمر أن يكون قد نال أمنيته أيضاً.
عبد الله بن الزبير بويع بالخلافة على الحجاز ونالها، ومصعب بن الزبير نال ولاية العراق، وكان شجاعاً كريماً معطاءً، وقُتل عبد الله في مكة في خلافته، وقُتل مصعب بالعراق في ولايته، وبقيت أمنية عروة بن الزبير وأمنية عبد الله بن عمر، أو لسنا الآن ننعم ونعيش ونجد العلم مما رواه عروة رضي الله تعالى عنه؟ فأي الأماني والأمنيات بقيت لأصحابها؟ فالخلافة قتلت صاحبها، والإمارة قُتل في ظلها صاحبها، ولكن أخذ الناس عن عروة العلم هو الذي بقي، وما زلنا كلما ذكرنا اسمه نترضى عنه.
فلو تأملنا نتائج الأفراد وأعمالهم فلن نجد مثل العلم أمنية ولا طريقاً يسلكه الإنسان، وقالوا: ولو كان مسألة واحدة.
فتعلم مسألة واحدة خير من عبادة ستين سنة عُمل بها أو لم يُعمل.
ونأتي إلى ما بعد ذلك في التاريخ فنجد قضيتين أيضاًَ في شخصيتين عظيمتين هما مالك بن أنس رحمه الله وأبو جعفر المنصور وهو في الخلافة، فيأتي أبو جعفر إلى مالك ويقول: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ولا منك، أما أنا فقد شغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وإياك وعزائم وشدائد ابن عمر ورخص ابن عباس يقول مالك: علمني التأليف آنذاك فلا هو في الشدة النهائية، ولا في التراخي والتسيب، بل وسط بين هذا وذاك.
ولما وضع مالك كتابه وتوفي أبو جعفر جاء هارون الرشيد إلى المدينة ومعه ابناه الأمين والمأمون صاحبا ولاية العهد، ونزل هارون في بيت الإمارة، وطلب من مالك أن يأتي بموطئه إليه ليقرأه على ولديه، فأجابه مالك: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي.
فعلم هارون أنه ينبغي أن يذهب إليه، فجاء هارون إلى بيت مالك، فوجد جارية تستأذن له على مالك، فأوقفته عند الباب واستبطأ عليه في الإذن ثم أذن له، فقال هارون: ما هذا يا مالك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك! قال: نعم.
طلبتني وأجبتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، وجئتني فعلمت أنك لم ترد دنيا ولا جاهاً ولا منصباً إنما تريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتهيأ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت وأخذت أحسن ثيابي وأذنت لك.
قال: هلم بكتابك فاقرأه علينا، قال: إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: وماذا تريد؟ قال: في المسجد مع طلبة العلم.
فعلم خدام هارون ونصبوا كرسياً في المسجد للخليفة، فجاء مالك إلى المسجد للدرس فوجد الخليفة على كرسي والناس من حوله، فبدأ حديثه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم قال: من تواضع لله رفعه، فعلم هارون أنه المعني، فأمر بتنحية الكرسي وجلس مع الناس.
فأين وقف الخليفة أبو جعفر؟ وأين وقف هارون؟ لقد وقفا على باب مالك؟ وأما الموطأ فهو الكتاب الأول أو الثاني بعد كتاب الله آنذاك، وأول ما دوِّن من سنة رسول الله، كما قال الشافعي: ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، وإن كان بعض الناس يقول: جاء بعده صحيح البخاري، ولكن هذا مبحث ندعه في جانب.
فلا زال الموطأ -بحمد الله- يتربع في قلوب العباد، ويستنير طلبة العلم بما حواه.