قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) .
التيسير: الرخاء، والتعسير: الصعوبة، فإذا كان الإنسان مع أخيه المؤمن فلييسر في معاملته، فإذا جاء وطلب منك أمراً يسرت عليه، سواء أكان في أمر دين أم أمر دنيا، يقول العلماء في هذه: إن جاء إنسان واستعار منك شيئاً فتلفت تلك العارية، فقل: لا عليك، أنت في سعة حتى يتيسر لك ردها.
أو اقترض منك وجاء الأجل ولم يستطع السداد، فلا تعسِّر عليه وتكرب أمره، بل يسِّر له وافسح له في المدة، واجعل له من أمره فرجاً، فإن يسَّرت عليه وهو معسر لا يستطيع السداد فاسمع ما قاله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مِثْله صدقة) ، فإن تصدقت فلك بالصدقة حسنة، وإن أقرضت وأنظرت المعسر كان لك بكل يوم مِثْله صدقة.
وقد تتصدق على إنسان في غنى، أو ليس في شدة حاجة، أو أن من عادته أن يسأل، فإن لم تعطه أنت أعطاه غيرك، ولكن المقترض لا يأتيك إلا عند الشدة وعند الحاجة، وقد لا يجد من يعطيه، فإذا حل الأجل وأنظرته كان لك في كل يوم كأنك تصدقت عليه بهذا الدين.
ومن التيسير ما قاله العلماء: لو أن إنساناً جاء واستفتى طالب علم، وعنده في فقه المسألة طريقان: طريق وعر شديد صعب، وطريق هين ميسر، فأيهما الأولى: أن يسلك به طريق الصعوبة والعسر، أم يسلك به طريق السهولة واليسر؟ قالوا: الأولى أن يسلك به طريق اليسر لا طريق العسر، مادام موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله.
يحكى أن ملكاً بالأندلس في ذات مرة في رمضان واقع أهله، فأحضر المفتي وسأله: ما كفارة الوطء في نهار رمضان؟ قال: صوم شهرين متتابعين.
فلما اجتمع به العلماء قالوا له: لماذا لم تذكر له العتق؟ قال: خشيت أن أقول له: العتق والعبيد عنده بكثرة، فيتساهل ويعتق ويواقع أهله، فجئته بصيام شهرين لأنه يعجز عن ذلك.
فمع من الحق؟ هل مع هذا الذي سلك طريق الصعوبة، أم مع الثاني الذي معه النص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وقعت على امرأتي وأنا صائم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا والله قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام.
-يعني عجزت عن شهر رمضان، فهل صوم شهرين؟ - قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: والله ما عندنا شيء.
ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال: أين السائل؟ فقال: أنا.
قال: خذ هذا فتصدق به.
فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك) .
فأي يسر بعد هذا، وقد جاء في سياق الحديث أنه لما وقع منه هذا الشيء ذهب إلى جماعته فقال: قوموا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أجد عنده حلاً لهذه المشكلة.
قالو: اذهب وحدك، نخشى أن ينزل علينا عذاب.
فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته بوعاء فيه تمر، جاءهم، فقال: جئتكم فلم أجد عندكم إلا الشدة والقسوة، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده الرحمة.
فطالب العلم ليس صاحب سلطة وعصا وقسوة يهلك العباد، فإذا وجدت طريقاً ميسراً يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله فاسلكه، فهذا الواجب عليك.
ثم إن هذا المفتي الذي أفتى الملك بالأندلس قال له العلماء: أخطأت في ذلك؛ لأن الشرع حكيم والرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالعتق أولاً، ثم انتقل من العتق إلى الصوم، ومن الصوم إلى الإطعام، ألا ترى أن الملك لو صام عشرين شهراً بدلاً عن شهرين فلن ينفع الناس بصيامه شيئاً، بل يمكن أن يعجز عن أداء مهمة ملكه، ولكن إذا أعتق رقبة واحدة ألا تتحرر تلك الرقبة، وكل من يأتي من نسلها يكون محرراً إلى يوم القيامة؟! فأيهما أولى -كما يقول الأصوليون-: النفع المتعدي أم النفع القاصر؟ المتعدي بلا شك.
وفي الحديث أن تاجراً ممن كان قبلنا كان يوصي عامله: خذ ما تيسر واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا.
فقال الله سبحانه وتعالى: (قد تجاوزت عنك) .
إذاً: فالمولى سبحانه وتعالى يعامل الإنسان بمثل معاملته لخلقه، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يرفق بالناس في كل حال، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (: ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، ولماذا تجد طريقاً سهلاً معبداً فتتركه وتذهب إلى الوعر في قمم الجبال؟ ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) .
وإذا نظرنا في العبادات فالأمر كذلك، فقد جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ورجع إلى أهله، وبعد سنة جاء وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه، وكأنه لم يحتف به، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟ قال: (من أنت؟ قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا.
قال: فإنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة، فما بلغ بك ما أرى؟ قال: مذ فارقتك ما أفطرت يوماً.
قال: صم يوماً من الشهر.
فقال: زدني قال: فصم يومين.
حتى قال: فصم ثلاثة أيام من الشهر) .
وعبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم بالقرآن كاملاً في الليلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتقرؤه في ليلة؟ قال: نعم.
قال: اقرأه في عشرين.
قال: دعني استمتع بقوتي.
قال: اقرأه في خمس عشرة، إلى سبع ليالٍ) وهذا في مسند أحمد رحمه الله، وبعضهم يقول: نزل معه إلى ثلاثة ليال.
وذكر الآخرون أنه كان يصوم ولا يفطر، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبُر قال: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه) .
فحينما يسلك الإنسان طريق اليسر يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.
مثلاً: أنت تريد أن تأتي إلى مكة تمشي على قدميك على افتراض أنه ليس هناك سيارة ولا طائرة، ومشيت على سعة، فحينما تتعب من المشي تجلس في ظل شجرة ثم تواصل السير، وإذا جاءك النوم نمت، فإنك لو أردت أن تتجاوز البحر إلى السودان وأفريقيا والمغرب إلى ما شاء الله فإنك تستطيع أن تواصل، وعقلاً يمكن ذلك.
لكن إذا ذهبت جرياً إلى أقصى ما تستطيع من الجري، أتستطيع أن تصل إلى منطقة قريبة؟ وهكذا إذا أخذ الإنسان طريق اليسر فإنه يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.
ولهذا -كما يقول العوام- الدين يسر، بل جاء الحديث: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، وقال صلى الله عليه وسلم:.
(ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه) ، فتعمل بقدر استطاعتك، ولما دخل صلى الله عليه وسلم فرأى حبلاً معلقاً في السقف سأل: لمن هذا؟! فقيل: لـ زينب، إذا غلبها النوم أمسكت بالحبل.
فقال: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم النوم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب نومه؛ إن أحدكم لعله أن يذهب يستغفر الله فيسب نفسه) .
وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) .
فمبدأ الإسلام التيسير، والله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] .
فسمة الإسلام التيسير، وليست التعسير، فمن يسر على مسلم في أي شيء من أمور الدنيا كالمعاملات أو في أمور الدين كالعبادات، أو في أي شيء ما دام في نطاق الحق ولم يخرج عنه يسر الله تعالى عليه.
ويكفي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأقدرهم على طاعة الله ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.