بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين] .
هذا الحديث يعتبر أساساً وأصلاً في علم القضاء، والحديث مع إيجازه يبين واقع العدالة والإنصاف في الإسلام، وأن كل دعوى ليس عليها بينة فهي مرفوضة.
وقوله: (لو يعطى) يقولون في علم العربية: (لو) حرف امتناع لوجود (لو يعطى الناس بدعواهم) الدعوى بألف مقصورة، والدعوة بالتاء، والفرق بينهما: أن الدعوى المقصورة هي الادعاء والتقاضي، والدعوة بالتاء: هي الدعوة إلى الوليمة ونحوها.
الدعوى تجمع على دعاوى، والدعوة للطعام تجمع على دعوات.
يبين صلى الله عليه وسلم أنه لولا البينة ولولا العدالة، وأنه لا يعطى كل إنسان ما ادعاه؛ لتقدم أناس بالدعوى في أموال أشخاص ودمائهم أي: كل يدعي ما يشاء، وليس الأمر كذلك، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
يقول علماء العربية: (لكن) للاستدراك، ودائماً تأتي بين نفي وإثبات، تقول: ما جاء زيد لكن جاء عمر، ما جاء زيد صباحاً ولكن جاء مساءً، وهنا كذلك واقعة موقعها؛ لأن المعنى لا يعطى الناس كل ما ادعوه، وإنما يعطون بمقتضى البينة، فوقعت (لكن) بين النفي والإثبات في المعنى.
أما ألفاظه فقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي: فيما يدعون به، (لادعى رجال) ، وهل الحديث خاص بالرجال فقط دون النساء أو أن النساء كذلك؟
صلى الله عليه وسلم النساء داخلة فيه كذلك، ولكن ذكر الرجال هنا للتغليظ؛؛لأن أكثر ما تكون الدعاوى بين الرجال.
(لادعى رجال أموال قوم ودماءهم) ، هنا جاء لفظ القوم بعد لفظ الرجال، فهل القوم هم الرجال أم أن كلمة القوم تعم الرجال والنساء معاً؟ يقولون في العربية: لفظ القوم خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، قالوا: لو أن كلمة (قوم) تشمل الجنسين لكانت تكفي عن إعادة ذكر النساء، واستدلوا بقول الشاعر: وما أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فقابل بين النساء وبين القوم.
واستدل الآخرون بألفاظ وردت تدل على أن القوم يشمل الرجال والنساء معاً، ولكن قالوا: يشمله بقرينة التكليف في الشرع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي- جاء لفظ الحديث باسم الفاعل- واليمين على من أنكر) كان مقتضى السياق واليمين على المنكر، لكن قال في الأول: (البينة على المدعي) ، واليمين على من يقابل المدعي بالإنكار.