قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، وأنت بالخيار، إن وقفت عند متاعها غرَّتك وأهلكتك فيها، وهذا نصيبك، وإن أعرضت عنها -كما أعرض غيرك- سلِمت منها كما سلِم غيرك، يقول بعض العبَّاد: إن لله عباداً فُطَنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا لله عبادٌ فُطناء، فالفَطِن الحقيقي هو الذي لا يغتر بالدنيا، ويضعها في موضعها، والغبي هو الذي تضحك عليه، فليس الزهد أن تعرض عن الدنيا بكل ما فيها؛ ولكن اجمعها بقدر ما تستطيع، وأنفقها في سبيل الخير بقدر ما تستطيع.
إذا كانت الدنيا متاع الغرور، وهذا تصويرها ومآلها، فما العمل؟ قال الله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، أعرضوا عن هذه الدنيا، والمسابقة إلى المغفرة تكون في الآخرة أم في الدنيا؟ في الدنيا، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، بأي شيء؟ بكل أنواع الخير، بدنية أو مالية، {سَابِقُوا} ولم يقل: (بادروا) ، بل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا.
} [الحديد:21] مثل آية آل عمران: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران:16] ، {.
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد:21] ، فالمسابقة إلى الخير ليست بعقلك ولا بجِدِّك؛ ولكنه فضل من الله سبحانه، فالمؤمن إذا وجد نفسه تسعى على طريق الخير فليعلم أنه فضل من الله، ولا يغرنك ذلك، ولا تقولن: هذا بجِدي وفَهمي وعلمي، لا والله! إنه {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] و: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:27] ، واعلم أنها نعمة وفضل من الله لك، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] .
انظر إلى حقيقة الدنيا! وسبق أن بعضهم قال: الزهد الرضا بالقدر، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد:22] ، تلك زينة الحياة الدنيا، وذلك العطاء المتفاضل، المنع والعطاء، كل ذلك {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:22-24] .
يقولون: مصيبة الأرض: الجدب وعدم المطر وغيره، وفي أنفسكم: المرض والعافية والفقر والغنى، وكل هذه الأشياء.
ما أصاب إنسان من مصيبة كونية أو بدنية أو مالية أيَّاً كانت إلا كانت هذه المصيبة مكتوبة عليه في كتاب من قبل أن يخلق، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] : والبرء هو: الخلق، ومن أسماء الله البارئ المصور.
وتقدَّم حديث: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) فإذا كنت تؤمن بالقدر حقاً رضيت عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أقبلت عليك الدنيا لم تفرح بها، وإن ذهبت لم تحزن عليها، وأيُّ رفعة للعبد في هذا؟ وكما قيل: الحجر والمدر يستويان.
والعاقل لو تأمل! شيء فاتك أتحزن عليه؟! وما يدريك بنتيجة لو جاء؟ في غزوة أحد رجع رئيس المنافقين بثلث الجيش، وفات على المسلمين حضورهم القتال، وحزن المسلمون، ولكن لما انكشف الحجاب ماذا كان الأمر؟ قال سبحانه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] .
إذاً: رجوعهم وعدم حضورهم المعركة كان خيراً، وهكذا أنت قد تتمنى مالاً، أو تتمنى ولداً، أو تتمنى وظيفةً، وتتمنى وتتمنى ولكن ما تدري ماذا في تلك الأمنية إن حُقِّقت لك؟ والمجال ليس مجال ذكر القصص في هذا؛ ولكن العاقل لا يحزن على ما فاته بقدر الله.
ثم لا تكن شديد الفرح بما جاءك، ولذا يقول بعض الناس: (اجعل ما فاتك صبراً، واجعل ما أتاك شكراً) ، لا تحزن على شيء فاتك؛ لأنه بقضاء الله، ولا تفرح كل الفرح بما جاءك وتفخر به وتتمادى به.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] : جاءت هذه الآية بعد {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا} [الحديد:23] .
صحيحٌ أن الإنسان يفرح بأي نعمة كانت، لو امتلك ثوباً جديداً سيفرح به؛ ولكن فرح شكر للنعمة لا فرح بطر، ولذا أعقبها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] ، المختال الفخور هو الذي يختال بما جاءه.
إذاً: اجعل ما جاءك من الدنيا شكراً لله، واصرفه في مرضاة الله، ولا تجعله خيلاء وفخراً على عباد الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد.