ثم نأتي إلى الأزمنة: إذا نظرنا إلى التشريع في الإسلام من الزمان: فالله سبحانه وتعالى فاضَلَ في الأزمنة كما فاضَلَ في الأمكنة وكما فاضَلَ في الخلائق كلها.
فمن الأزمنة الفاضلة من أيام الأسبوع: يوم الجمعة، ومن أيام السنة: يوم عرفة، ومن ليالي السنة: ليلة القدر.
إذاً: هذه أزمنة فاضلة.
ولكن التفاضل في جانب، والذي يهمنا في باب التحريم قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، تلك الأربعة الحرم حرم الله سبحانه الاعتداء فيها، بل وجعل النسيئة زيادة في الكفر، وكان العرب حينما يمر عليهم ثلاثة أشهر: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم يستطيلون تحريم ثلاثة أشهر لا يقاتلون فيها ولا يسلبون ولا ينهبون.
وقد أشرنا سابقاًَ إلى الحكمة الإلهية الجليلة في تحريم تلك الأشهر الحرم؛ لأن العرب كانوا يعيشون نظاماً قبلياً: (من عَزَّ بَزَّ، ومن غلب سلب) ، وكانوا يحجون إلى البيت وهم على شركهم، فمنهم من يأتي من أقصى الجزيرة من الخليج، ومنهم من يأتي من أقصى الجنوب من اليمن، وإذا أراد أن يحج فالقبائل أمامه تعترضه، فالله جعل أشهر الحج ضمن الأشهر الحرم التي يحرم الاعتداء فيها، قال الله سبحانه: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، فكانوا يحترمون الهدي إذا سيق إلى البيت، والقلائد، وآمين البيت الحرام، فإذا عرفوا أنهم عمَّار أو حجاج كفوا عنهم.
فجعل الله الحج متزامناً مع الأشهر الحرم ليأمن الحاج من أقصى الجزيرة إلى البيت ذهاباً وإياباً فكان يأتي في ذي القعدة وجزء من ذي الحجة، ويرجع في جزء من ذي الحجة وكامل المحرم، وهكذا يتم حجه في الأشهر الحرم آمناً على نفسه وهديه، ورجب الفرد محرم أيضاً.
إذاً: هذه أشهر حرَّمها الله فلا تعتدوا فيها على أحد.