إذاً: أنواع الجهاد متعددة، وقد ظهر جهاد الكلمة في غزوة الأحزاب بمظهر عجيب، كلمة فعلت أكثر مما تفعل الجيوش، فإنه لما جاء الأحزاب -قريش وأحلافها مع غطفان- وعلم صلى الله عليه وسلم تحرك المشركين، وحفر الخندق بعد مشورة سلمان رضي الله تعالى عنه، وبهذه المناسبة كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: خطة الخندق خطة فارسية، حينما أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بما عزمت عليه قريش وأحلافها ومجيئهم يستأصلون المدينة كلها، فقال: (أشيروا علي) ، قال سلمان: كنا إذا حوربنا خندقنا، يعني اتخذنا الخندق حولنا، فأعجبته الفكرة وأخذ بها.
وحبذا لو دُرِست غزوة الخندق، من ناحية الأسباب والنتائج ومواقف الناس فيها، لتكون منهجاً في حالة السلم والحرب؛ لأن فيها من المبادئ العسكرية الشيء الكثير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش تحت لواءين، لواء للمهاجرين ولواء للأنصار، وقسم الجميع عشرات، في تسلسل هرمي ينم عن عقلية عسكرية فذة.
واختلفوا في سلمان هل يكون تحت لواء المهاجرين أم تحت لواء الأنصار، المهاجرون يقولون: هو منا لأنه جاء مهاجراً من بلاد فارس، والأنصار يقولون: بل هو منا لأنه كان موجوداً حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية النزاع، ويقول: (سلمان منا أهل البيت) ، فبأي صلة وبأي رابطة ارتفع نسب سلمان الفارسي، وليس في دمه قطرة دم عربية حتى يصل إلى بيت النبوة!! إلى بني هاشم ذروة النسب والحسب في العرب بأي شيء وصل ذلك؟ هو عبَّر عن هذا فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم أبوك من يا سلمان؟ لم يقل فلان ابن فلان، مع أن أبوه كان من سدنة بيت النار، لكن كل ذلك أُلغي، فقال: أبي الإسلام.
فحفروا الخندق بإشارة سلمان، وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجه تيارات فكرية مختلفة، وأزمات اقتصادية، فالمدينة محصورة بين لابتين، والإنتاج لا يكفي كل من يأتيها، وليس هناك ميادين عمل، علي رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه على أن ينزع كل دلو ماء بتمرة، لكن القضية ليست قضية إنتاج واقتصاد، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، ووجد المهاجرون قوماً يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فآثروهم بأموالهم واتسعت صدورهم لهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] ، والمهاجرون يتعففون عن أموالهم.
عبد الرحمن بن عوف يقول له أخوه من الأنصار: هلم أقاسمك مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى من شئت منهما أطلقها وتعتد وأزوجك إياها.
فيقول: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك، دلني على السوق.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
يأتي القسم الثالث: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] .
ومن هنا يقول الإمام مالك رحمه الله لما سأله المهدي هل للخوارج حق في الفيء؟ قال: لا، كل من يبغض سلف الأمة وأصحاب رسول الله ليس له شيء من الفيء؛ لأن الله قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:7-8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا} [الحشر:8-9] .
فمن لم يقل في سلفه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ولم يقل {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، فليس له في الفيء نصيب، وكل من كان في قلبه غل لصحابي واحد فليس له في الفيء نصيب.
كان هذا هو المجتمع الأول، ماذا يفعل مع اليهود وهم أصحاب وطن وأصحاب إقامة؟ كتب وثيقة عهد المسلمين وبين اليهود، واليهود ثلاث قبائل، وكل قبيلة لها حلف مع الأوس أو الخزرج.
فعالجها صلى الله عليه وسلم بتلك الوثيقة، وأصبح مرد النزاع في المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في تلك الوثيقة أن على اليهود ألا يعينوا عدواً على المسلمين، وأن يدافع الجميع عن المدينة إذا داهمها عدو من الخارج، لأنها بلد الجميع.
فلما جاء الأحزاب نقضوا العهد وعزموا على قتال المسلمين مع المشركين، وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رجلين فقال: اذهبا وتحسسا، فإن رأيتما حقاً فارمزا لي رمزاً، وإن كان غير ذلك فاجهرا وصرحا، والعلة في عدم تصريحهم بنقض اليهود حتى لا يقع الروع في قلوب المسلمين، فذهبا وجاءا فقالا: عظل والقارة.
وفهِمها صلى الله عليه وسلم.