ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، وسنة الخلفاء مثل ما فعله عثمان عندما اتسع العمران في المدينة، فسن عثمان الأذان الأول يوم الجمعة قبل الوقت، وجعل هذا الأذان على الزوراء، وكانت تبعد عن المسجد نحواً من مائتين متراً تقريباً؛ وذلك لأجل أن يرجع الناس من أسواقهم إلى البيوت، ليتهيئوا لأداء الجمعة؛ ولذا يمكن لقائل أن يقول: لعل عثمان رضي الله عنه أخذ ذلك من المصلحة التي تقتضيها.
ويمكن أن يستند لهذا الفعل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد أجمع الفقهاء أن من كان بعيد الدار، ولو مكث في مكانه حتى يسمع النداء لم يدرك الخطبة أو يفوته شيء من الصلاة، فإنه يتعين في حق هذا بالذات أن يسعى إلى ذكر الله قبل النداء إليها، كما في القاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فرأى عثمان رضي الله تعالى عنه أن أهل السوق لو بقوا في أسواقهم حتى ينادى للجمعة عند دخول الوقت، فإنه لا يسعهم أن يأتوا إلى صلاة الجمعة من دكاكينهم وأسواقهم، ويحتاجون إلى الرجوع إلى البيوت للاغتسال أو الوضوء، فلم يبق عندهم وقت، فرأى أن يجعل أذاناً قبل الوقت لهذه المصلحة.
ومن هنا أخذ الفقهاء أنه إذا اتسعت البلدة فيشرع أن يجعل أكثر من مؤذن، كما قال مالك: إذا اتسع المعسكر فإن على القائد أن يجعل عدة مؤذنين لتنبيه الناس، إلا أذان صلاة المغرب لضيق الوقت.
ولذلك شرع الأذان الأول لصلاة الصبح، وهذا من أصل السنة، ويمكن أن يقال: إن عثمان قاس أذان الجمعة على أذان الصبح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سن أذانين للفجر سوى الإقامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم،) فكان بلال ينادي قبل الفجر، ويجوز بعد ندائه الأكل والشرب للصائم، حتى إذا نادى ابن أم مكتوم أمسك من يريد الصوم عن الأكل والشرب، وقال: (الفجر فجران: فجر يحل فيه الطعام، وتحرم فيه الصلاة، وفجر تحل فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام) ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون لهم من السنن ما يستند إليه العلماء فيما بعد.