يبحث العلماء في الضلال والهداية على أن الهداية قسمان: - هداية بيان وإرشاد.
- وهداية توفيق إلى الخير.
أما هداية البيان والإرشاد: فهي التي أرسل بها الرسل، وبينتها للأمم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: أرسلنا لهم الرسل وبيّنا لهم الطريق ولكن: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] .
وأما هداية التوفيق ففي قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، أي: هداية توفيق، لأنها خاصة بالله تعالى.
وقد جاء في الآية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فهناك قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وهنا يقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فقالوا: الهداية المثبتة هي الدلالة على الصراط المستقيم، وليس كل من دُلَّ على الصراط يسلكه.
وكما جاء في الحديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) ، وكلاهما قرشي، وكلاهما يفهم العربية، وكلاهما في الفهم سواء، وجاء القرآن وكلاهما يسمع ويرى، لكن التوفيق بيد الله.
إذاً: كلكم ضال سواء عن الصراط أو عن الطريق حتى يأتي الهدى والبيان من عند الله، أو: كلكم ضال مختوم عليه بعيد عن الحق حتى يوفقه الله لذلك، فمن وجد نفسه على طريق الهدى فليحمد الله؛ لأن هذا منحة من الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن يقال لسيد الخلق صاحب الرسالة: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: يخلق التوفيق في قلب من شاء هدايته، إذاً: من وجد نفسه على الصراط السوي فليعلم بأن ذلك أكبر نعمة أنعمها الله عليه.
ولنعلم أيها الأخوة أن بعض السلف كانوا يقولون: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: وجوده من العدم نعمة الإسلام والهداية، ودخول الجنة: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
فمن وجد نفسه على طريق سوي فليحمد الله على تلك النعمة وهي النعمة الكبرى؛ لأن وجوده بدون هداية كان عدمه أولى منه: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، فإذا وجد في هذه الدنيا وجاءته الهداية فإن مآله إلى الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى.
والحديث عن الهداية يبين لنا أنه ما جاء بعد موضوع الظلم إلا وهو أعظم موضوع في حياة الإنسان، وأغلى وأعز ما يحصل عليه البشر، وهو نعمة عظمى بعد نعمة الوجود من العدم.
فهنا يبين الله سبب الظلم ألا وهو الضلال الشديد عن الحق، والغواية عن الرشد والرشاد، فيقول سبحانه: (يا عبادي!) وما ألطفها من عبارة، وما أرحمها من جملة تفيض بالحنان وباللطف وبالعطف من الخالق على المخلوق.
ولو تأملنا أيها الإخوة في هذا النداء لوجدنا أن المولى سبحانه لا يخاطب الخلق (بعبادي) إلا في مواضع الرحمة والتكريم كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] .
ويقول العلماء: لقد سمى الله جميع الرسل بأسمائهم في كتاب الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيثني عليه بصفة العبودية بعد ذكره، وذكر اسمه إنما جاء في مقام إثبات الرسالة وشهادة المولى له: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، وأما في مواطن التكريم والتعظيم والتشريف فيقول مثلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] ، فقد كانت رحلة الإسراء فريدة لم يسبقه إليها أحد صلى الله عليه وسلم ولن يلحقه فيها أحد، فقال: ((سُبْحَانَ)) فقدم المولى تنزيه نفسه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ؛ لأنه ليس أمراً عادياً، فهو يُبين أن القادر على ذلك هو الله.
ومن ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] ، وفي إنزال القرآن الكريم تشريف وتكريم واصطفاء من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا كل فقرة من هذا الحديث فيها إنعام وعطف ورحمة وإكرام من الله، فيأتي النداء: (يا عبادي!) .
من رحمة الله أن حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه، ثم قال: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) إذ لا يملك الهداية للعبد إلا الله، وقد أشرنا بأن الهداية تنقسم إلى قسمين: - هداية بيان وإيضاح ودلالة وإرشاد، وهي التي جاءت بها الرسل.
-هداية توفيق وسداد، وهي التي تكون لله سبحانه وحده.
وجاء في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، أي: الدلالة والإرشاد والإيضاح، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، أي: بينّا لهم طريق الصلاح وطريق الرشاد لكنهم أعرضوا عن ذلك.
وأما الهداية هنا في الحديث فمعناها التوفيق.
ولما ألح صلى الله عليه وسلم وأخذته عاطفة القرابة إلى عمه يقول له سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .