وقوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، يبين لنا أن الناس في ظل هذا القرآن، وفي نور تلك الحجة، إما شخص مقبل عليها مستضيء بها، فهو مع القسم الأول من المهتدين، وإما شخص معرض عنها، أو متلاعب بها، أو غافل عنها، أو قد اتخذ كتاب الله وراءه ظهرياً، فأولئك مع الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وهنا يقول: (كل الناس يغدو فبائع نفسه ... ) ، وفي نهاية سياق القرآن لتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام ذكر في نهاية صفقة: اشتروا الضلالة بالهدى، وفي نهاية هذا الحديث صفقة: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، لأي شيء؟ النتيجة تبين ذلك، فالذي يبيع نفسه لله فقد أعتقها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ، هذه تجارة، وهذه تجارة، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] ، وهذه صفقة القسم الأول: المتقون {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:11-13] ، عندما تذهب إلى السوق بسلعة، فإن وجدت ثمناً يناسب بعتها، وإلا رجعت بها إلى بيتك، ولكن هذا السوق الذي أنت سلعته لا اختيار لك، وكل يوم تشرق فيه الشمس وتغرب، هو جزء من ثمنك في هذا السوق، وكل يوم تعقد فيه صفقة على نفسك، فلمن تبيع؟ ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
يقول بعض العلماء: على بيت كل إنسان رايتان: راية في يد ملك من ملائكة الرحمان، وراية في يد شيطان وكل يدعوه إليه، فإن ذهب في ظل راية الملك فهو إلى طاعة الله، وإن ذهب في ظل راية الشيطان فهو إلى معصية، عياذاً بالله! إذاً: الذي يبيع نفسه ويعتقها فإنه يبيعها لله، وكل عمل بر فهو طاعة لله، والصفقة الكبرى مع الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] .
إذاً: الدنيا سوق، والناس هم السلعة، والثمن الجنة.
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في كل الخلائق ثمن بها تشترى الآخرة فإن بعتها بشيء من الدنيا فذاك الغبن إن أنا بعت نفسي بدنيا أصيبها فقد ذهبت نفسي وذهب الثمن فالله هو المشتري، وهو الخالق، والرازق، والنعمة منه، فإذا بعت الصنعة لصانعها، وبعت المخلوق لخالقه، واشترى المولى نفوس عباده، وثامنهم عليها بأن لهم الجنة، فأي صفقة أربح من تلك؟ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، سبحان الله العظيم! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، فصاحب الجنة يكدح إليها، وصاحب النار -عياذاً بالله- يكدح إليها، مع أن الكادح إلى النار أشد شقاء ونصباً من الكادح إلى الجنة، والكادح إلى الجنة يتوضأ، ويأتي متطيباً متطهراً، ويدخل من أبواب المسجد ويجلس فيه أين شاء، ويجالس الإخوان في غاية من الهدوء والسرور والطمأنينة، أما صاحب المعصية فإنه يترقب ويتوجس ويحترس، فإن دخل بيتاً ليسرق توقع كل عوامل الهلاك، وإن ذهب إلى بيت ليقتل أو ليزني فإنه يتحرز ويتعب، بخلاف الذي يسعى إلى صدقة، أو إلى صلاة، أو حج، أو عمرة، مع أن هذا يكدح وهذا يكدح.
إذاً: ما دامت الحياة كلها كدحاً فليكن الكدح في طاعة الله، وهذا الذي يؤدي إلى الجنة، فيغدو من الصباح فيبيع نفسه لله، وأعلى صفقة للإنسان هي: الجهاد في سبيل الله؛ لأن الله ساوم الخلق عليها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111] ، القتال فيه يقاتلون ويقتلون، وهذا أمر طبيعي، والجنة هي الغنيمة، وقال الله في سورة الصف: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:13] ، فهذا هو نصر في الدنيا، والشهادة والجنة هذا هو المكسب الكبير، وبعض العلماء يقول: لو أن إنساناً أعطاك بيتاً من ذهب، وبيتاً من خزف، وقال لك: بيت الذهب تسكن فيه مؤقتاً على ما تحب، وبيت الخزف إلى الأبد، فالعاقل يبيع الذهب الفاني بالخزف الباقي، ويختار الخزف الدائم بالستر والوقاية على أن يتمتع بالذهب ثم بعدها يطرد إلى الشارع، وقالوا: من باع خزفاً باقياً بذهب فانياً فهو مجنون أحمق، فما بالك بمن يبيع الذهب الباقي بالخزف الفاني؟! الدنيا وإن تزخرفت فهي خزف، ولا قيمة لها في الآخرة، فكيف تبيع الآخرة التي هي ذهب دائم بالدنيا التي هي خزف فانٍ؟! وفي ختام هذا الحديث يبين لنا مآل البشر جميعاً، وأن الدنيا -التي هم فيها- سوق قائمة، وهم فيها سلعة، والبيع فيها إجباري، والمشتري هو الرحمن لمن كان في طاعة الله، بأي طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان جالساً، فمر شابٌ قوي، فقال رجل من الجلساء: لو كان هذا الشباب والقوة في سبيل الله -يعني بذلك الجهاد-، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها أو على أهله ليكفيهم فهو في سبيل الله) أي: إن خرج عاملاً ليعمل في مصنعه، أو خرج زارعاً ليزرع في مزرعته، أو خرج بائعاً ليبيع في متجره، أو خرج يتسبب في طلب الرزق، ويتعفف عن سؤال الناس، فهو في سبيل الله.
ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى تعالى عنها: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) .
وعلى هذا فمن خرج في غدوة نهاره يسعى في عمل مباح فهو في طاعة الله، وهو بائع نفسه ليعتقها.
كان بعض السلف يقول: الإنسان في الدنيا أسير، وعليه أن يعمل في فكاك نفسه، وذكر ابن رجب أن من السلف من اشترى نفسه من الله مرتين أو ثلاثاً، يزن نفسه بالفضة، ويتصدق بها، ويخرج من ماله صدقة في سبيل الله، ليعتق نفسه من النار.
إذاً: آخر هذا الحديث يبين لنا مدى حجية القرآن للعبد، ومدى حجيته عليه.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بمتشابهه، ويتبع ما جاء فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يكون القرآن حجة له، وأن يشفعه فينا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الصادق الأمين، والحمد لله رب العالمين.