المعنى الأعم لقوله: (الطهور شطر الإيمان)

قيل: الطهور شطر الإيمان بمعنى: (الصلاة) ، وهذا المعنى الأخص، وإذا نظرنا إلى المعنى الأعم، وإلى ترتيب ما جاء في الحديث، حيث ذكر الصلاة والصدقة، والصوم داخل في الصبر، فذكر أركان الإسلام الثلاثة، وبقي من الأركان الحج والشهادة، والحج داخل في أعمال البدن وأعمال المال، وبقي الركن الأول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي تحصل به طهارة القلب من دنس الشرك.

فإذا أخذنا قوله: (الطهور شطر الإيمان) ، وقلنا: إن الطهور في الإسلام بحسبه، فطهارة الثوب من الخبث، وطهارة البدن من الحدث، وطهارة القلب من أمراضه كالحقد، والحسد؛ لأن الإيمان لا يقارن الحسد ولا الحقد، فهذا صواب.

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل معلق نعليه، فسلم ومضى، فلما كان من الغد جلسنا في ذلك المجلس، وقال صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، قال: فتبعته حتى عرفت بيته، فلما جاء المساء، جئته وطرقت عليه الباب، وقلت: إن بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده -وما كان بينه وبين والده شيء- وأردت أن أكون ضيفك الليلة، فقال: مرحباً، قال: فتعشى بعد أن صلى العشاء، ثم نام، وقبل أن يؤذن للصبح قام وتوضأ وذهب إلى المسجد وصلى الصبح، ولم أر شيئاً جديداً، فقلت: لعله ترك عبادته من أجلي، أو أنه متعب من عمله، فذهبت في الصباح ورجعت إليه في الليل لأنظر ماذا سيكون منه، فلم أجد شيئاً جديداً، ثم الليلة الثالثة -أي: مدة الضيافة-، فقلت: يا عبد الله! أخبرني عما تعمل سراً فيما بينك وبين الله، قال: ليس لي عمل إلا ما رأيت، أصلي العشاء وأنام، وأقوم الفجر، وأذهب إلى عملي، وأرجع إلى فراشي! قال: أليس هناك شيء آخر؟ قال: لا، أبداً، فمضى ثم دعاه فقال: ما سبب سؤالك؟ فأخبره، فقال: إن يكن شيء فإننا نبيت وليس في قلوبنا حقدٌ لأحد) ، ولذا يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (ما سبق السابقون بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في القلب) ، أي: من طهارة القلب، وتعظيم حرمات الله، ومخافة الله سبحانه وتعالى.

إذاً: الطهور هنا المراد به: طهارة القلب من كل أدرانه، كما في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] تطهرهم من أي شيء؟ هل تطهرهم من نجاسة أو خبث؟ لا، بل تطهر تلك النفوس، قال تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: في أنفسهم وأموالهم، فالزكاة بمعنى: النماء والزيادة، يقول العلماء: (الزكاة تطهر وتزكي) ، فالغني والفقير يستفيد من الزكاة، فالغني يطهر قلبه من درن الشح، والفقير تزكو نفسه من الحقد والحسد.

وإذا سلم الغني من الشح، وسلم الفقير من الحقد، أصبح الجميع إخواناً، ومن هنا يمكن أن يقال: إن الحديث عني أول ما عني بالقلب؛ لأن القلب إذا طهر نبع وفاض بكل خير، ولذا أعقب طهارة القلب بذكر اللسان، والذكر لا يأتي بمجرد نطق اللسان بل لابد أن يكون نابعاً من قلب طاهر، وكأن الحديث يقول: أولاً طهر قلبك، ثم بعد ذلك اذكر ربك، فيكون الذكر نابعاً من قلب طاهر مع الله، ومثال ذلك في المحسوس: المزارع إذا أراد أن يزرع أرضه، وجاء ببذور جيدة غالية، فقبل أن يضع البذور في الأرض ينقي التربة، فإن كانت سبخة حذاها، وإن كان فيها نجل نقاها، إن كانت فيها حجارة أبعدها، حتى تصبح التربة طيبة منبتة نقية، فحينئذٍ يطمئن إلى الزرع، فإذا زرع فيها كان النبات حسناً، أما أن تكون أرض سبخة، أو أرض ملغمة، أو أرض اختلطت حجارتها بترابها، فكيف تنبت هذه؟! ومن هنا أيها الإخوة! جاءت لا إله إلا الله، بمعنى أنها تنفي كل مألوف، وبعد أن يزيل الاعتقاد من كل مألوف، وينبذ كل المعبودات، يتجه إلى إله واحد، دون مزاحمة.

وإذا جئنا إلى الاجتماعيات والمشاركة في الفكر: إذا كنت تريد أن تضع فكرة نقية في قلب إنسان، فقبل أن تضع الفكرة، وقبل أن تدعوه إلى الفكرة يجب أن تزيل العوائق، فإذا كان إنسان يعتقد اعتقاداً خاطئاً، وتريد أن تلقنه القعيدة السليمة، فقبل أن تلقنه العقيدة السليمة يجب أن تبين له بطلان ما في ذهنه، لماذا؟ لأنك إذا جئت بالصالح مع الطالح أفسد الطالح الصالح.

مثلاً: إذا كان عندك عسل مصفى، وعندك إناء فيه زيت أو شيء آخر، فلا تدخل العسل على الزيت أو على شيء قذر، ويجب أن تنقي الإناء وتنظفه أولاً، ثم تصب العسل فيه، وكما يقولون: الغزو الفكري، يكون بمجيء فكرة تزاحم فكرة، ودعوة تزاحم دعوة، وحينما تختلط اللغات بعضها ببعض، تجد فيها احتكاكاً، وتجد كلاً من اللغتين تأخذ من الأخرى، ويحصل حينئذٍ اللحن، ومن هنا ندرك أهمية وصية النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، لماذا؟ كان اليهود موجودين، والمشركون موجودين، فإذا استمر دين بجانب الدين الإسلامي، فلا بد أن يحصل احتكاك، ولا بد أن تأخذ كل طائفة من الأخرى؛ ولهذا يجب ألا يكون في جزيرة العرب دينان؛ وجزيرة العرب قاعدة الإسلام، ومنطلق الإسلام، فيجب ألا يشارك الإسلام فيها دين آخر؛ لأنه إن وجد فيها دين آخر فسيحصل امتزاج واحتكاك، أولئك يأخذون من هؤلاء، وتزحف العادات السيئة إلى صميم وقلب الأمة الإسلامية.

إذاً: (الطهور شطر الإيمان) أولاً وقبل كل شيء: طهارة القلب من كل ما يدنس المعتقد الإسلامي، سواء كان فيما يتعلق بالعقيدة في ذات الله سبحانه، في وحدانيته، في أسمائه وصفاته وأفعاله، في ربوبيته لكل العالمين، في ألوهيته وإفراده بالعبادة، فإذا طهر القلب، وصار نقياً مع الله، أصبح هذا القلب خصباً نقياً، صالحاً لأن تضع فيه كل خير، فينطق بحمد الله وتسبيحه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015