أما قوله رضي الله تعالى عنه: (وأحللت الحلال وحرمت الحرام) هذه المسألة تحتاج إلى وقفة طويلة! فإحلال الحلال وتحريم الحرام ينبغي أن يُعلم أنه ليس للعبد وليس للسائل، إنما هو لله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحله الحلال وهو الذي يحرم الحرام، ومن نصب نفسه محللاً أو محرِّماً فقد نصب نفسه نداً لله، ومن أطاع مخلوقاً في تحريم ما لم يحرمه الله، وفي تحليل ما لم يحلله الله، فقد اتخذ شريكاً مع الله، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
فقال عدي بن حاتم: (يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله.
قال: ألم يكونوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه، ويحلون لكم الحرام فتحلونه؟! قال: بلى.
قال: فتلك عبادتكم إياهم) .
لما جاء الشيطان إلى أهل مكة وقال: (سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة -بعدما حرم الله الميتة- قال: سلوه: الشاة تصبح ميتة مَن الذي أماتها؟ من الذي ذبحها -أو كما قيل- فإن قال لكم: الله، فقولوا له: ما ذبحتموه أنتم بأيديكم يكون حلالاً، وما ذبحه الله بشمروخ من ذهب يكون حراماً؟ فجاءوا وسألوا رسول الله، فأنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ) .
أي: شرك طاعة.
وهكذا يضع لنا هذا السائل الكريم تلك القاعدة: (أحللت الحلال) ولا ينبغي لمسلم أن يأتي بما أحله الله، فيقول: هذا حرام، فيقول: أحرمه على نفسي.
(لقد جاء ثلاثة نفر إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن أعماله في بيته، فأخبرتهم أم المؤمنين عائشة عن قيامه ونومه، وعن صيامه وفطره، وعن إتيانه زوجاته، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فتناجوا من وراء الحجاب وهي تسمع، فقال أحدهم: أما أنا -والله- أقوم الليل ولا أنام -حرم النوم على نفسه-، وقال الثاني: لأصومن الدهر ولا أفطر -حرم الفطر على نفسه-، وقال الثالث: لأعتزلن النساء ولا آتي النساء أبداً -حرم النساء على نفسه- فلما ذهبوا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أم المؤمنين بما سمعت، فبادر صلى الله عليه وسلم إلى المنبر وخطب وقال: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
ولهذا فإن أكبر خطأٍ على المسلم أن يأتي إلى شيء أحله الله فيحرمه، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] إذا كنت تزهد فيه فاتركه، وإذا كنت تعافه فاتركه، أما أن تجعله حراماً، أو تحرمه على نفسك فلن تملك تحريم الحلال.
ولعل قائلاً يقول: إن من تجرأ فحرم الحلال يكون كمن تجرأ فأحل الحرام؛ لأن كلاً منهما تعدٍّ على حكم الله، وكل منهما نصب نفسه مشرعاً من دون الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فإن (إحلال الحلال) أي: فعله معتقداً حله، و (تحريم الحرام) أي: تركه معتقداً حرمته.
لأن الشخص إذا ترك الحرام وهو لا يعلم أنه حرام وتركه عفواً وتركه قلةً وعجزاً أله أجر في هذا الترك؟ لا.
أما إذا عرف أنه حرام ومنع نفسه منه وجاهد نفسه في ذلك، فإنه لا يقدر قدره إلا الله.
وفي قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار فسقطت عليهم صخرة وسدت عليهم باب الغار، وتوسلوا بصالح أعمالهم، وتوسل أحدهم ببر الأبوين، وتوسل الآخر بحفظ حق الأجير، ويتوسل الثالث بالعفة عن الحرام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الثالث أنه قال: (إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها فامتنعت، فأخذتها السنون والجدب وجاءت تطلب مالاً، فراودتها -فرضخت تحت الحاجة- فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً، وقالت: يا هذا! اتقِ الله! ولا تفضنَّ الخاتم إلا بحقه.
فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانجابت الصخرة، وخرجوا يمشون في الخلاء) .
هذا ترك شيئاً حراماً يعلم أنه حرام وتركه لوجه الله.
وهكذا فإن من اقتصر على المكتوبات، وأحل الحلال أي: اعتقد حله، وحرم الحرام أي: اعتقد حرْمَتَه وتجَنَّبَه فإن هذا أقل درجات الاستقامة.
وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله لي ولكم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم على الهداية والاستقامة حتى نلقاه وهو راضٍ عنا.
رحم الله والدينا ومشايخنا والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.