الحديث يرويه أبو عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي.
وجابر رضي الله تعالى عنه من آخر من توفي بالمدينة، وكان له حلقة علم في هذا المسجد النبوي الشريف.
ويقول عن نفسه: (ما تخلفت عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشهد أبي في غزوة أحد) .
وله مع أبيه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداث جسام.
مما جاء عنه: أن أباه لما استشهد في أحد قال: (جئت وأبي مسجّى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أكشف وجهه لأراه، فنهاني الصحابة وسكت عني رسول الله، قال: نهوني مخافةً عليَّ مما أرى بأبي من المُثْلة.
ثم بعد ذلك يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ذلك الوقت يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت لا زالت تحفه بأجنحتها حتى رُفع) .
ثم بعد ذلك لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جابراً فقال له: (هلم يا بنيَّ! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ لقد أحياه، وما كلّم الله أحداً كفاحاً سوى أبيك، قال: تمنَّ يا عبدي! قال: أتمنى -يا رب- أن تعيدني إلى الدنيا أقاتل في سبيلك وأستشهد مرةً أخرى.
قال: سبقت كلمتنا أنهم إليها لا يُرجعون -أي: انتهى الأمر-، تمنَّ.
قال: أخبر من وراءنا بما وجدنا) .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جابراً بعد أيام كئيباً، فقال: (ما بالك -يا بني- كئيباً؟ قال: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، فجئت إلى أصحاب الدين -وهم من اليهود- فأعطيتهم كل ما عندي -وكان عنده بستان من أبيه- ليأخذوه في دين أبي فلم يقبلوا، طلبت منهم التأجيل فلم يؤجلوا، وطلبت منهم أن يضعوا من دين أبي فلم يضعوا.
فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أردت الجَداد فآذِنِّي.
فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ومر بالبستان، وقال له: جُدَّ كل نوع على حدة، ثم اكْتَل لهم دينهم.
قال: فوفيت جميع الدين، وبقي لي من ثمرة البستان مثل ما كنت أجُدُّ كل عام) .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: وبعد ستة أشهر ذهبت لأنقل أبي -أي: من أرض المعركة، وقد كانوا أرادوا نقلهم في أول يوم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهيد المعركة يُدفن في مكانه- وبعد ستة أشهر يقول: جئت لأنقل أبي فما وجدت الأرض غيَّرت منه شيئاً إلا شعرات في لحيته، ولكأنه دُفن بالأمس.
ويروي مالك رحمه الله: (أن السيل مر بمحل المعركة فاحتفر قبر عمرو بن الجموح وآخر، فجاء أهلهما يحملانها من الوادي وينقلانهما إلى المدينة، وكان بين ذلك السنوات الطوال -قال ابن كثير:- ما غيرت الأرض منهما شيئاً، وكان عمرو واضعاً يده على صدغه -أي: على جرح- فرفعنا يده، فلما تركناها عادت حيث كانت) .
هؤلاء هم الشهداء أحياء عند الله.
وبهذه المناسبة: سمعت من بعض الإخوان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في منطقة سيد الشهداء، في أواخر الستينات الهجرية، يقول بلسانه -وأسمع منه بأذني-: توفي لنا طفل صغير، فاستكثرنا أن ننقله إلى البقيع، وقلنا: ندفنه في مقبرة الشهداء بأحد، قال: فذهبت أنا ورجل معي، نحفر القبر، فإذا بالدم يفاجئني في وجهي، ونظرنا فإذا فخذ إنسان، قال: فأخذنا قطعة من الثياب وعصبنا الدم، وأعدنا التراب، وجئنا بالطفل إلى البقيع.
تلك آيات نشاهدها وعلامات نحضرها يقيمها الله لكل مسلم آيةً محسوسةً ودليلاً وشاهداً على ما جاء في كتاب الله، وإن كان كتاب الله دليلاً قائماً، ولا يتوقف الإيمان به على مشاهدات ولا محسوسات، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وصدق الله العظيم القائل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] .