قال الله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] ، إذاً: نتيجة الاستقامة الرزق العاجل في الدنيا.
وقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يقول الشافعي وغيره: إن هذا الحديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، منتزع من هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ماذا تكون النتيجة؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] تتنزل ولم يقل: تنزل، كأن فيه تجدد النزول سواءً كان بالنسبة للأفراد فكل شخص تنزل عليه ملائكة خاصة، أو للشخص فيتكرر عليه نزول الملائكة بالبشرى، تتنزل عليهم الملائكة من أجل ماذا؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، أي بشرى أعظم من هذه يا إخوان؟! انظر إلى هذه المقدمة قبل دخولهم الجنة {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، فنفي الخوف والحزن معاً في وقت واحد، ويقولون: الخوف من المستقبل، والحزن على الماضي.
ومتى يكون تنزل الملائكة؟ الجمهور على أنه في لحظة النزع، عند إدباره من الدنيا، وإقباله على الآخرة، وهذا أشد ما يكون خوفاً مما أمامه، وأشد ما يكون حزناً على ما ترك وراءه، فيقال لهم: ألا تخافوا من المستقبل، لماذا؟ لأنكم كنتم على استقامة، ولا تحزنوا على الماضي، وما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف، إن كان محسناً أسف أن لم يكن قد ازداد، وإن كان مسيئاً يأسف أن لم يكن قد أحسن، فساعة النزع ساعة حزن قطعاً، والملائكة تأتي لترفع عنه هذا العبء والخوف من طريق لم يسلكه من قبل، وما يدري ماذا أمامه، فهو طريق مجهول، لو كنت تمشي في فلاة من الأرض، وما سبق لك أن مشيتها من قبل، وكنت في ظلام دامس، ولا دليل معك، ولا تدري أتطأ شوكاً أو حجراً أو حية أو تقع في حفرة، ولا تدري ماذا يكون أمامك، فكيف يكون سيرك؟ لا شك يكون بخوف، فالميت ترك أطفالاً وصاروا يتامى، وترك أموالاً ولا يدري ما يصير فيها، وترك زوجات، وغير ذلك، فكل ذلك يكون موضع حزن، ولو لم يترك شيئاً بالكلية فإنه ترك الدنيا التي كان يعمل فيها الخير، ولحظة من لحظات الدنيا يذكر الله فيها خير من الدنيا وما فيها، كما جاء أخوين مات أحدهما، وعاش الآخر بعده أياماً، ثم ذكر الأول بخير، ثم ذكر الثاني بخير أكثر منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم يكن صلى وصام بعده؟ قالوا: بلى، قال: ذلك زيادة خير) .
وهكذا الدنيا هي سوق الإنسان، وعمره هو رأس المال، ففيها يعمل رأس المال في سوقه ليصل إلى الربح، فإن ربح فالحمد لله، وإن خسر -عياذاً بالله- فليس هناك سوق آخر، فتتنزل الملائكة على المؤمنين في تلك اللحظات، ويقولون لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، ومع ذلك يزيدونهم على هذه الطمأنينة بقولهم: {وَأَبْشِرُوا} [فصلت:30] ، والبشرى هي: الخبر السار الذي تتغير له بشرة الوجه بالبشرى والاستبشار والتهلل والسرور، وهذه أعظم بشرى يتلقاها الإنسان، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، الذي أخبركم بها الرسول، وقرأتم عنها في القرآن، ووصفت لكم بأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ثم ربط بين ملائكة الرحمة وبين الإنسان المستقيم، فهم أخوة، فقال الله عن الملائكة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] ، ولاية الملائكة للإنسان متى كانت؟ لقد كانت ولاية مرافقة، وولاية نصرة، وولاية تأييد، ولقد نزلت الملائكة تقاتل مع المسلمين في الغزوات، فكانوا فعلاً أولياء المؤمنين في الحياة الدنيا، وكذلك امتدت الولاية إلى الآخرة، قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أي: استقاموا على طريقك، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] ، فهذه هي الولاية الحقيقية، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) ، وقال الله عنهم: {والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23-24] ، ويقولون: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31-32] ، والنزل هو: الذي يقدم للضيف على عجل حتى تؤدى له الوليمة الكبرى، فالملائكة تقدم أول مجيئهم الهدايا والتحية، في أول نزولهم إلى الجنة.
ثم ذكر الله الدرجة العليا للدعاة إلى الله، وهم كل من استقام على دين الله، ولم تشغله نفسه عن إخوانه، بل تفرغ لهذا الصراط، يدعو من حاد عنه يميناً أو يساراً، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، لا أحد أحسن قولاً منه، ثم بين سبحانه عظيم مهمة هذا الداعي، وعظيم قدر تلك الاستقامة، فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] ، الداعي يتعرض إلى إساءة الناس، فأمره الله أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، أي: ادفع إساءة المسيئين بالحسنة، وهل يستطيع كل إنسان ذلك؟ لا، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، تنتقل العداوة إلى صداقة وولاية؛ لأنك استقمت على سبيل الدعاة إلى الله، قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، فمن كان كذلك داعياً إلى الله، فلا أحد أحسن قولاً منه، ولكن {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
أيها الإخوة: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا، وقاربوا، ولن تحصوا) أي: ولن تستطيعوا أن تأتوا بكل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، والتسديد هو: التصويب، حينما تجعل هدفاً أمامك وترميه بالسهم فتصيبه، فالتسديد هو: أن تصوب السهم إلى غرضه، فسدد في العمل، واقصد الغاية المرجوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولن تطيقوا) أي: لن تطيقوا كل الاستقامة، ولكن سددوا وقاربوا.
قال بعض السلف: المستقيم على الصراط المستقيم كالجبل لا تحرقه النار، ولا يتأثر بالبرد، ولا تزعزعه الأهواء، بل هو ثابت مستقر في مكانه، وهكذا المسلم المستقيم؛ لا تغره الدنيا بزخرفها، ولا يلين مع الهوى ولا إلى المال، ولو راودته نفسه فهو مستقيم لا يتزعزع، مستقر على الطريق السوي من دنياه إلى آخرته.
والله أسأل أن يوفقني وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم! اهدنا صراطك المستقيم، اللهم! أعنا على سلوكه، اللهم! اجعل لنا الرفيق الأمين الذي نقتدي به، اللهم! اجعلنا من أتباع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووفقنا لنتبع ما جاء به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم! أوردنا حوضه، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! إنا نسألك -يا الله- أن تأخذ بنواصي المسلمين إلى الخير، حكومات وشعوباً، حاكمين ومحكومين، واهدهم إلى العودة إلى كتاب الله والاستقامة على دين الله، ونسألك أن توفقنا جميعاً إلى ما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، والقادر على ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! واجزه عنا أحسن ما جازيت نبياً عن أمته.