ونورد قصة لو لم نسمعها من الثقات لما أبحنا ذكرها، وهي في الواقع نموذج من آيات الله التي يسمعها العبد فيزداد يقيناً بالله سبحانه وتعالى، ولقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يشاهدون الآيات والمعجزات، فيزداد في يقينهم بالله، وإيمانهم بوعده سبحانه، وهذه القصة من هذا القبيل، تنفع كل مسلم يتعامل مع الله، وهي: أن رجلاً من وادي الدواسر في المملكة خرج في السيل يطلب الماء، فما وجد ماءً في الآبار التي حوله، وكان تحت الجبل مغارة يقال لها: الدحل، وهي معروفة عند أهل تلك الناحية، وإذا جاء المطر وجرى السيل غمرها الماء، فيمكث فيها السنة والسنتين، لكنها في متاهة ومفازة، فهي تحت الجبل، في ظلام دامس، وطرق متعددة، ولا يدخلها إنسان إلا بدليل، وبضوء أو بحبل يربطه على فم الدحل، وهذا الرجل دخل بدون شيء، فلما أبعد قليلاً وجد نفسه قد ضاع، فجلس، وعلم أن أهله سيأتون يبحثون عنه في هذا الدحل، وأخذ أهله يبحثون عنه أربعة عشر يوماً، في الآبار، وفي الغيران، وفي الكهوف، فما وجدوا شيئاً، وأخيراً قالوا: نذهب إلى الدحل، فجاءوا وبطريقتهم العادية، يأخذون ثوباً من القماش، ويشقونه على عرض الكف، ويشبّعونه بالشحم، ويلفه رجل على وسطه، ثم يشعل النار في طرفه كالشمعة، ويأخذ حبلاً، ويدخل إلى الدحل، والناس ينتظرونه في الخارج، فمشى رجل منهم كذلك، فلما دخل قليلاً إذا به يرى شبحاً من بعيد جالساً، فناداه: أنت فلان؟ قال: نعم، أنا فلان، فجاء إليه، وخرج به، وذهبوا به إلى بيته، وسألوه: متى جئت إلى الدحل؟ قال: من يوم خرجت من عندكم! قالوا: أربعة عشر يوماً؟! قال: نعم، قالوا: كيف عشت هذه المدة كلها؟! قال: قبل أن أجيبكم أخبروني ماذا فعلتم في منيحة أيتام فلان؟ والمنيحة عند العرب أن يكون عندك شيء من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وفيها الحلوب، فتسرح مع أنعامك، وإذا رجعت في المساء أخذت حليبها، وأرسلته إلى من منحته إياها، فهذا كان له جيران أيتام، وكان قد منحهم حليب بقرة من بقره، فكل يوم يرسلها إليهم، فقال: أخبروني عنها! فقالوا: وما علاقتها بذلك؟ قال: أخبروني أولاً! قالوا: كنا نرسلها كل يوم، وما قطعناها إلا بالأمس، قال: قد عرفت ذلك! قالوا: وكيف عرفت؟! قال: إني حينما دخلت، وتشعبت عليّ الطرق، وعرفت أني قد تهت، ووقعت في الهلاك إن لم يتداركني الله برحمته، جلست في مكاني بغية أن تأتوا إليّ فتأخذوني، فما جاءني أحد، فلما مضى زمن صرت أقوم للصلاة، وأتلو القرآن، ولما اشتد بي الجوع والعطش رفعت كفي إلى الله وسألته أن يغيثني، فإذا بإناء بين يدي، فرفعته إلى فمي فإذا بحليب البقر الذي أعرفه! وهكذا كل يوم لمدة ثلاثة عشر يوماً، وما انقطع عني إلا بالأمس!! ماذا نقول في هذا أيها الإخوة؟! هم كانوا يحلبون البقرة، ويرسلون حليبها إلى الأيتام، وهو هناك في الدحل تحت الجبل، ولا يعلم عنه أحد إلا الله، فمن كان يبعث إليه بحليب منيحته؟ مع أن الأيتام شربوا الحليب! وتأتي إليهم منيحتهم كل يوم، ولكن الله سبحانه عرفه في الشدة؛ لأنه كان متعرفاً إلى الله في الرخاء، فكان يمنح الأيتام هذا الرزق، فحينما وقع في الشدة لم يتخل عنه رب العزة، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله، فالله سبحانه هو الذي يسوق الحليب في ضروع الأنعام كلها، ولكن أن يأتي هذا الحليب إلى هذا الشخص في تلك الظروف فهذه هي الآية والمعجزة.
فما عدم مسلم خيراً أودعه عند الله قط، بل جاء في الحديث: (إن العبد إذا تصدق بالصدقة، وقعت أول ما تقع في كف الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون كجبل أحد) ، تعطي لقمة صدقة، تضعها في يد المسكين، فيتلقاها المولى سبحانه، وينميها لصاحبها حتى تصبح كجبل أحد، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.