ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ومن أفقه الصحابة، ورد عنه موقفان يدلان على فقهه وإمامته وألزم ما يكون لطالب العلم معرفتهما: أولاً: ما يذكره ابن كثير في تفسيره، والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: كانت الصلاة في أول الأمر إذا أقيمت وجاء مسبوقٌ، لا يدري كم صلوا، يسأل الذي بجانبه: كم صليتم؟ فيشير واحدة أو اثنتين، فيصلي ما فاته بسرعة، ثم يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ما سلم رسول الله سلم معهم؛ لأنه أتى بما فاته قبلاً.
فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه يوماً فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم ينتظر رفعهم من السجود ويسأل؛ ولكن كبر وسجد، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف معاذ ما فاته قام وقضى ما فاته وسلم بعد ذلك.
فقال له جاره: (لم تعتد بالركعة -يعني: سجدت ولم تأتِ بالركعة كاملة- فقال: ما كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وأحببت أن أكون عليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ما فعل معاذ - فقال: هي سنة لكم) فصارت السنة إلى الآن أن المسبوق إذا جاء وجب عليه أن يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها ولا ينتظر، فإن كان قائماً قام معه واستمع أو قرأ، أو راكعاً ركع، أو رافعاً قائماً، أو ساجداً، أو جالساً، أو في التشهد، على الحالة التي يدرك الإمام فيها.
الموقف الثاني: حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه صلى الله عليه وسلم يوادعه ويوصيه، ثم قال: (يا معاذ! كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات: فبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب صلى الله عليه وسلم بصدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) .
قد نجد بعض الناس يتكلم في سند هذا الحديث، ولكن عامة علماء المسلمين وقضاتهم يعتبرون حديث معاذ هذا الأصل الأصيل في باب القضاء، وعليه فإن أول ما يلزم القاضي أن يطلب الحكم من كتاب الله، وهذا أمر حق، فإن لم يجد في مجمل كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الخاصة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما العامة في نصوصه- فإن لم يجد في كتاب أو سنة فهنا يتعين عليه الاجتهاد، ولا يصح له التقليد، بمعنى: ألَّا يحكم حكماً إلا ويعرف دليل هذا الحكم على ما استند.
هذا هو معاذ.
أما أثره في الإسلام، فإنا نعلم بأن مصعب بن عمير أول من قدم المدينة يعلم أهلها الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين.
ومعاذ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح حينما خرج إلى حنين يفقه أهل مكة في الدين.
ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام، فـ معاذ علم أهل مكة الإسلام، ومعاذ ذهب إلى اليمن معلماً وقاضياً فيها، ومعاذ بُعث إلى الشام، فلكأن معاذاً كان بعثة علمية متنقلة في العالم الإسلامي.
وما يهمنا في هذا كله هو أخذ نبذة عن هذا الصحابي الجليل، كما أنه يروي لنا حديث (اتقِ الله حيثما كنت) قيل: إنه جزء من الوصية التي أوصاه بها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى اليمن.
وفي بعض الروايات قال له صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لعلك ترجع فلا تلقاني، ولعلك تمر بمسجدي وبقبري.
فبكى معاذ رضي الله تعالى عنه خَشَعاً لفراق رسول الله وألَّا يراه) .
وقد جاء مثل ذلك عن بعض الصحابة -ولعله عبادة بن الصامت - حينما أراد النبي أن يرسل بعثاً إلى نخلة لاستطلاع أهل مكة، فأعطاه كتاباً مختوماً وقال: (لا تفضن كتابي هذا إلا بعد مسيرة ثلاثة أيام فأخذه ونظر إلى رسول الله وبكى قال: ما يبكيك؟! قال: لفراقك يا رسول الله! فأعفاه وأخذ الكتاب وأعطاه لـ عبد الله بن جحش، ومضى في طريقه وما فض الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام) كما يقولون في الوقت الحاضر: تعمية الأخبار، والحرب الخاطفة.
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه بأي شيء أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء؟ قال له: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) : ثلاث جمل، كل جملة وحدها تستوقف طالب العلم؛ يجمع أطرافها، وينظر كنهها، ويبحث في آثارها على الشخص وعلى المجتمع، ولا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يستوفي الثلاث كلها.