فقوله: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) تحتها مباحث اجتماعية وفقهية.
والقتل يكون بأحد هذه الأمور: إما جهاد في سبيل الله، وإما قصاص، وإما حد كما تقدم في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فإذا ارتكب المسلم ما يوجب قتله سواء كان نفساً بنفس، أو ارتد عن دينه، أو كان ثيباً وزنى، أو قتل يقتل، وقد يقتل في ميدان الجهاد عند مجاهدة العدو الكافر المشرك بالله، وفي هذه يتجلى أدب الإسلام حتى مع الكافر المشرك والمحارب، فلو قتل في المعركة فلا ينبغي أن يمثل به، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (قاتلوا على بركة الله باسم الله، لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا تمثلوا) ، فإذا كان هذا في حق المشرك بالله المحارب للمسلمين، فكيف بغيره؟! فإذا كان القتل في الإسلام، وكان القتل لحد من حدود الله فقد بين صلى الله عليه وسلم أن إقامة الحد إن كان موجباً للقتل فيجب أن تكون القتلة حسنة، ولا تكون على سبيل التعذيب، واتفقوا بأن الحدود ضربة بالسيف من خلف العنق؛ لأنها أقرب للنخاع الشوكي، وإذا قطع النخاع مات الإنسان، وكان الناس يستعملون المشنقة والخنق أو غير ذلك، لكن السيف أسرع ما يكون.
ويقال: القصاص مأخوذ من المقص، وإذا قصصت الثوب بالمقص تساوى طرفا القماش المقصوص، فإن كان في المقص اصطلامات وانحناءات فستظهر تلك الانحناءات في طرفي القماش.
أي: يجب أن يكون القصاص مماثلاً، بمعنى: لو أن إنساناً قتل إنساناً بحجر في رأسه فيقتل بحجر في رأسه، ولو أن إنساناً خنق إنساناً وكتم نفسه، فيقتص منه بالخنق وكتم النفس وهكذا عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، إلا إذا كان قتله بمحرم فلا ينبغي أن ينفذ حكم الله بمحرم، كأن يكون سقاه خمراً مسكراً، أو سقاه شيئاً مما هو محرم حتى قتله، ومعلوم عند الأطباء أن من شرب الخمر وزادت نسبة الكحول في دمه إلى ستة في المائة فإنه يموت في الحال، وعلى هذا قالوا: فلا يقتل بخمر؛ لأن الخمر حرام، ولكن يمنع عنه كل الطعام ويسقى بخل حتى يحترق الكبد ويموت؛ لأن الخل حلال ويأتي بالنتيجة.
لكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: كل قصاص ضربة بالسيف، والذي ضرب أو خنق أو رض آثم وخطؤه على نفسه ونحن لا نخطئ مثله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا حكم عام في كل قتل ولو كان قصاصاً.
والجمهور يستدلون بقضية اليهودي الذي وجد جارية وعلى رأسها أوضاح، -يعني: شيء من الحلي- وفي بعض الروايات: (بأطراف المدينة) وفي بعضها: (بخربة من خربات المدينة) فرض رأسها بين حجرين وأخذ الأوضاح، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسألونها: فلان فعل بك هذا؟ فترفع رأسها كأنها تقول: لا، فيسألونها: فلان؟ فترفع رأسها، حتى ذكر ذاك اليهودي فخفضت رأسها، فجيء به فاعترف فرض رأسه بين حجرين، فقال الجمهور: فهذا قتل بما قتل به فقد رض رأس الجارية بين حجرين، -بمعنى: أضجعها وجعل تحت رأسها حجراً، وجاء بحجر آخر ورض رأسها فماتت- ففعل به مثلما فعل.
وهنا نقف مع قضية هذه الفتاة، ونخاطب بها الشرطة، والمجتمع، والأبوين.
فاليهودي وجد الجارية في أطراف المدينة في خربة، وقتلها لأن عليها أوضاحاً، أي: قطع من الذهب والفضة، فنقول للشرطة وعمد الحارات: لا تتركوا الخربات في أطراف المدينة فتكون مأوى للمجرمين، بل عمروها، أو اهدموها؛ لأن تلك الخربات يأوي إليها أصحاب الجرائم.
ونقول للأبوين: تبذلوا المال للأطفال، فهذه فتاة صغيرة سبب قتلها حليها، فما حاجة الفتاة الصغيرة للأوضاح؟ فلا تلبسوها الذهب والفضة وتسرحوها في الشارع، وإلا فأنتم تشاركون في قتلها.
إذاً: على الأبوين أن يصونوا أولادهم، وألا يكونوا سبباً في إلحاق الضرر بهم في زيادة التنعيم.
نرجع إلى القضية نص الحديث حيث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هل القتل ضربة بالسيف في جميع الحالات، أم أن الإحسان في القتل أن يكون بالمماثلة؟ فحينما يرى أهل الجارية جاريتهم مقتولة بهذه الصورة البشعة يتألمون، وحينما يتذكرون أن رأس قاتلها رض بين حجرين كما فُعل بها فإن ذلك يخفف عليهم من المأساة، لكن بخلاف ما لو ضرب عنقه بالسيف فهذا لا يساوي عندهم قتل جاريتهم، فالجمهور رحمهم الله والأئمة الثلاثة قالوا: (كتب الإحسان) صحيح، وإحسان القتلة صحيح، والقتلة: بمعنى فِعلَة، أي: هيئة القتل، ومن الإحسان فيها: أن نشفي صدور أولياء الدم، وأن يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه.
ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فلا يكون القتل إلا ضربة بالسيف.