قول عمر رضي الله تعالى عنه: (إذ طلع) ، هذه (إذ) الفجائية، كأننا فوجئنا بشخصٍ.
وانظر إلى دقة الوصف: (شديد بياض الثياب) ، كأنه خارج من الحمام، (شديد سواد الشعر) ، كأنه لم يمش خطوة في شارع، (لا يرى عليه أثر السفر) لنصاعة بياض ثيابه، ونقاء شعره من وعثاء السفر.
(ولا يعرفه منا أحد) ، أي: لا هو مسافر من بعيد، ولا هو من أهل البلد نعرفه، فلو كان من أهل المدينة لعرفه منا أحد، فلم يكن أحد من أهل المدينة يعرفه، ولم يكن قادماً من سفر، إذاً: من أين جاء؟ عمر يصف لنا الواقع، ويصف صورة مجيء جبريل التي تثير التساؤل! نحن الآن نفرض لو أننا جلوس ورأينا واحداً وهو قاعد في الوسط أطول من الحاضرين بمتر، لا نعرفه ولم نر عليه أثر السفر، نقول: من أين جاء؟ طلع من الأرض أو نزل من السماء؟! ما رأينا الأرض انشقت عنه، ولا رأينا السقف انفرج عنه ونزل، ولكن جاء بصورة رجل ودخل واستأذن، فهو رجلٌ؛ لكن من أين جاء؟ هل أحد قال: إنه رأى جدران المسجدان تنشق عنه وهو يخرج منها؟ فاقترب جبريل عليه السلام وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسند الركبتين إلى الركبتين، وأخذ كفيه وبسطهما ووضعهما على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا محمد!) .
ومعلوم بأن نداء النبي صلى الله عليه وسلم باسمه لا يجوز، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] ، وإنما يقال: يا نبي الله، يا رسول الله، فكيف جبريل نفسه يقول: يا محمد؟ هذا الأسلوب يتخذه الأعراب، فكأن جبريل جاء ويسأل على الأسلوب الجاري عند أهل البادية وعلى طريقتهم بدون كلفة أو ألقاب ومقدمات.
ثم قال: (أخبرني عن الإسلام) فأجابه صلى الله عليه وسلم.
وهنا نتساءل: هل الرسول عرف بأنه جبريل حينما قال: يا محمد، ثم جاراه في الأسئلة والأجوبة، أم أنه لم يعرفه، وكأنه رجلٌ من الرجال يسأل عن الإسلام وهو يجيبه؟ يرى بعض العلماء أنه لم يعرفه، ويروي في ذلك: (ما التبس عليّ جبريل قط حينما يأتيني إلا هذه المرة، وما عرفته إلا بعد أن ولى) ، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ما عرف السائل بأنه جبريل عليه السلام حتى ولى، فعرف من توليه أنه جبريل، وقال: (ردوا عليّ الرجل) .
لماذا يقول: ردوه؟ فما دام سأل وأخذ الجواب، فلماذا لم يتركه يذهب لحاله؟ لأنه تذكر بأنه جبريل عليه الصلاة والسلام.