قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) يقولون في علم اللغة: (من) مِن أدوات الشرط، وفعل الشرط هنا: (كان يؤمن بالله اليوم الآخر) ، وجواب الشرط: (فليقل خيراً أو ليصمت) ، ثم مرة أخرى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ثم أعاد الشرط مرة ثالثة: (فليكرم جاره) ، ولو تأملنا في نصوص الشريعة لوجدنا أن الإيمان بالله واليوم الآخر قاعدة الانطلاق في العمل الإسلامي من فعل أو ترك، فما صلى إنسان، ولا صام، ولا زكى، ولا حج، ولا جاهد، ولا فعل فعلاً من أفعال الخير، ولا عف عن زنا، ولا كف عن سرقة، ولا صان دماً؛ إلا انطلاقاً من إيمانه باليوم الآخر، لماذا؟ لأنه في اليوم الآخر يجازى على فعل الخير، ويعاقب على فعل الشر، ولولا إيماننا بالبعث والجزاء والحساب، لصرنا أشبه ما نكون في غابة، فمنطلق أي عمل هو الإيمان باليوم الآخر؛ ولو أخذنا المصحف الشريف فأول ورقة فيه بعد الفاتحة، فيها قوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، ومن هم المتقون؟ (الذين) ، وفي علم البيان في البلاغة أن مجيء الجملة بعد الجملة معطوفة بواو فهي مغايرة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولكن إذا جاءت بدون واو، فالجملة الثانية إما تفسير لما قبلها، أو جواب على سؤال فيها، أو جزء منها، فهنا قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] ، فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب، إذاً: الآية جاءت مفسِّرة لما قبلها، وهي مفسرة بما قبلها أيضاً بينت من هم المتقون، وكلمة المتقين تبين لنا الذين يؤمنون بالغيب.
إذاً: علة وجود التقوى عند المؤمن هو إيمانه بالغيب، وعطف على الإيمان بالغيب توابع: يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة، ومما رزقناهم ينفقون، والإيمان بالماضي، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، فكأنهم يرون القيامة بين أعينهم يقيناً، ما هو مجرد تصديق، بل يقين، ومراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.