وهنا وقفة: فهذا جبريل الملك الذي سد الأفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:7-8] وذلك عندما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يراه على هيئته الحقيقة، فرآه فإذا به يسد الأفق بجرمه، وهذا هو جبريل الذي رفع قرية قوم لوط على طرف جناحه، حتى سمعوا صياح الديكة والحيوانات في سماء الدنيا، ثم قلبها كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] أي: المنقلبة، فإذا به يأتي ويظهر في سورة رجل، ويدخل المسجد من بابه، ويأتي إلى مجلس رسول الله، يسند ركبتيه إلى ركبتيه وكفيه على فخذيه.
كيف تحول جبريل عليه الصلاة والسلام من هذا القدر العظيم إلى هذه الصورة؟ هذا عالمٌ نوراني لا دخل للعقل فيه قط، وكذلك نرى من أحوال الجن وهو عالم نيراني -أي: من النار- ما يتشكل ويتجنس، وإذا تشكل في صورة أحكمته أحكام تلك الصورة.
فجبريل عليه الصلاة والسلام يتشكل بهذه الصورة، وأحيانا كان يتشكل كما قال صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه، وقد كان يأتي في خفاء عن الناس، وهنا يأتي ظاهراً عياناً لكأنه يُشهد الخليقة بأن هذا جبريل الذي يأتيني بالوحي ما كان خافياً فقد أصبح ظاهراً، وقد يراه بعض الناس وقد لا يراه.
وقد جاء في أحاديث حق الجار عن بعض الأنصار قال: (خرجت مع أهلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل يقاومه -يعني: قائمٌ معه، والمقاومة يكون فيها كلٌ شخص قائم لصاحبه- فجلست وظننت أن له حاجة، ولقد رثيت لرسول الله من طول القيام مع هذا الرجل، فلما ولى الرجل، جئت وقلت: يا رسول الله! والله لقد رثيت لحالك من طول قيامك مع هذا الرجل، قال: أرأيته؟ قلت: بلى، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا.
قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لردّ عليك السلام؛ ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .
وحديث ابن عباس، وذلك لما (جاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له، والباب مفتوح والرسول أمامه، والعباس يرى رسول الله، ويستأذن عليه فلا يأذن له، فرجع مغاضباً -وكان في بني هاشم حدّة- فلما رأى ابن عباس أباه مغضباً، قال: يا أبت! لم تغضب؟ لعله مشغول بالرجل الذي عنده يحادثه، قال: وهل عنده رجل؟ قال: بلى، قال: ما أرى شيئاً، قال: ارجع، فرجع فإذا بالرجل الذي عنده ليس موجوداً، فاستأذن فأذن له رسول الله، فقال: يا محمد! جئتك واستأذنت عليك ثلاث مرات فلم تأذن لي وأنا أراك بعيني، والغلام يقول: لعلك كنت مشغولاً بالرجل الذي كان عندك، فقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: أتدري من هو؟ هذا جبريل عليه السلام كان عندي آنفاً) .
إذاً: جبريل عليه السلام وهو ملك؛ إما أن يتحول في صورة البشر ويقترب من البشر، ويقترب من رسول الله فيما يمكن أن يأخذ عنه ويلقي إليه، وإما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة الوحي، وهي أعلى منزلة في حالة البشرية العادية، حتى يتلقى عن الملك في حالته الملائكية، وهذا بناءً على ما أجرى الله لرسوله من تلك التهيئة البدنية على خلاف العادة، حينما شق صدره وهو غلامٌ صغير، فقد كان ذلك تهيئة لما سيتلقاه من الوحي الذي لا يمكن للبشر العادي أن يتلقاه.
وهكذا جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، وفي صورة رجل من أجل أن يؤدي المهمة العظمى ويعلم الناس أمر دينهم.