بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه] .
ابن مسعود رضي الله عنه صحابي جليل، وكان يقول: أنا سابع سبعة في الإسلام، وتاريخه مجيد، وفضله بين الصحابة عظيم، حينما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه ليسمع خبره، ثم رجع إليه وقال: إنه يأمر بالمعروف، ويأمر بمكارم الأخلاق، وذكر أموراً مجملة، فقال: لم تغن عني شيئاً، فركب راحلته، وأخذ ماءه وزاده، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وسمع منه، ثم رحل هو وأمه ونزل على خاله، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لا يحل) حلّ يحل تأتي في اللغة متعدية ولازمة، تقول: حل يحِل، وحل يحُل، فإذا كانت من الفعل اللازم فهي من باب ضرب يضرب، وإذا كانت من الفعل المتعدي فهي من باب بطر يبطُر، تقول: حل العقدة يُحلُها؛ لأنه متعد إلى مفعول به، وتقول: حل بالمكان يحَل، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ؛ لأنه لازم، وكذلك حل الشيء يحِل، إذا كان حراماً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ، الإسلام يعصم دم الإنسان، كما تقدم في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) .
الإسلام هو المذكور في حديث جبريل عليه السلام حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الإسلام؟) ، فبين له الأركان الخمسة، ثم سأل عن الإيمان؟ فبيّن له الأركان الستة، ثم سأله عن الإحسان، فبيّن له ذلك، وهو مسك الختام، وأهم شيء فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فهكذا بناء الإسلام، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بيت فسيح منيع يحمي أهله فقال: (بني الإسلام على خمس ... ) ، وتلك الدعائم هي التي يقوم عليها الإسلام، وجاء الحديث الآخر يبين آثار تلك الدعائم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) ، وهنا قال: (فقد عصموا مني أموالهم ودماءهم؛ إلا بحق الإسلام) ، فعصمة المال والدم تكون بالإسلام، وكل إنسان ينطق بالشهادتين فإنه قد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام، وما هو حق الإسلام؟ هذا الحديث يُبين ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم) ، والمسلم هو الذي التزم بالشهادتين، ومدلولهما، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج إن استطاع، فهذا المسلم معصوم الدم والمال، لا يحل دمه أبداً، بأي حالة من الأحوال، إلا بنص جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهنا ذكر هذه الثلاث الحالات، ويوجد أحاديث أخرى أباحت القتل بسبب صفات وأعمال أخرى، ولكنها تندرج تحت قتل النفس، أو تحت (التارك لدينه، المفارق للجماعة) ، وجاءت أحاديث تجيز القتل بسبب شرب الخمر والسرقة، ولكنها -كما قيل- إما ضعيفة، وإما منسوخة، مثل حديث: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) ، ولكن ثبت أن رجلاً شرب الأولى وجلد، ثم الثانية، وجلد، ثم الثالثة وجلد، ثم الرابعة فجلد، فقال الصحابة رضي الله عنهم: فعلمنا أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع.