أطلنا في ترجمة أبي هريرة لتعلقها: بمنهجه في تحصيل العلم عن رسول الله، ومن ينقطع للعلم يحصل على بعض ثمرته، والعلماء يقولون: أعطه كلك يعطك بعضه، إن أعطيت العلم كلك، وتفرغت له ليلاً ونهاراً، أعطاك بعضه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، فإذا أعطيته كلك ويعطيك بعضه؛ فكيف إذا كنت تعطيه البعض الأقل؟! كيف إذا كان يزاحمه في قلبك الشيء الكثير؟ ورحم الله الشاعر الشنقيطي الذي يقول: جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ذل: أي تواضع لمن تأخذ عنه، تواضع لمن كان أكبر منك، وارحم من كان دونك، وابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذا عملياً، يقول: كنت غلاماً عند أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لشاب: هلمّ نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كثر، فقال: أتظن أن الناس يأتيهم يوم يحتاجون فيه إليك؟ قال: فقمت أنا، وقعد هو، فكنت أسمع بالحديث عند الرجل ولو آذنته لجاءني، فأتبعه من المسجد وأمشي خلفه، إلى أن يأتي إلى بيته، وأريد أن يلتفت عند دخوله البيت فيراني فيكلمني، فيدخل البيت ولا يتلفت، فأجلس على باب بيته حتى يخرج إلى الصلاة المقبلة، أضع ردائي على وجهي وتسفي الرياح على التراب، فيخرج الرجل فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أعلمتني لجئتك، فأقول: العلم يؤتى إليه.
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يمشي مع زيد بن ثابت، وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول: يا ابن عم رسول الله! إما أن تركب أو أنزل؟ فيقول: لا أركب ولا تنزل، هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ليس ذل الصغار ولا الهوان، ولكن التواضع في طلب العلم.
لقد رسم لنا جبريل عليه السلام صورة طلب العلم، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: (دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه على ركبتيه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ ... ) وهذه جلسة المتعلم المؤدب، جلسة من يطلب العلم، ويوقر من يأخذ عنه.
وسغب في البيت المذكور هو الجوع، ويقولون: الإنسان إذا ملأ بطنه، وأعطى نفسه كل مطلوبها تبلد الذهن، ويقل الذكاء مع كثرة الشبع، ومن عادة العلماء في طريقة التعليم أنهم يلزمون الطالب في بداية النهار أن يحفظ قبل أن يفطر، وبعد أن يحفظ ويُسمّع ورده، يؤذن له بأن يتناول الإفطار بعد ارتفاع الشمس، ولذا يقولون: إذا أردت أن تحفظ أو تذاكر مسألة عويصة عليك؛ فلا تأتها وأنت على شبع، وإنما وأنت خالي المعدة، وقوله في هذا البيت: (ذل وسغب) ، أي: لا تشغلك الدنيا وملذاتها عن طلب العلم.
ومن هنا أقول: إن فترة الدراسة بالمنحة الدراسية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هي الفرصة الذهبية في حياة طالب العلم؛ لأنه يقضي -على أقل تقدير- سبع سنوات، ثلاثاً في الثانوية، وأربعاً في الجامعة، وإن قدر له دراسات عليا أربع أو خمس سنوات كان مجموعها عشر سنوات، يقضيها منقطعاً للدراسة، ليس كالمهاجرين يشتغلون بالأسواق لطلب المعيشة، وليس كالأنصار يشتغلون في البساتين لإصلاح أموالهم، ولكن تجارته ومزرعته وكل شيء -في هذه الفترة- هو درسه وطلبه للعلم ما بين الجامعة والمسجد النبوي الشريف الذي جعل الله فيه البركة لكل طالب علم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآتي إليه معلماً كان أو متعلماً كالغازي في سبيل الله.
ولو تتبعنا ترجمة أبي هريرة لخرجنا عن موضوع الحديث، ويكفينا هذا القدر، ونرجع إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.