ذكرنا أن لكل ملك حمى، وقلنا: إن الملك قد يحمي بعض المواطن لرعي دوابه، وقد يحمي بعض المواطن لمواقف سياراته، وقد يحمي بعض المواطن لموارد مستودعاته، وكل هذا من الحمى الذي يكون للمصالح العامة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (استبرأ) أي: طلب البراءة، مثل: (استغفر) طلب المغفرة، وقوله: (واستبرأ لعرضه) هذا واجب على كل مسلم كما لا ينبغي أن تخالف عادات مجتمعك بأمر فيه شبهة وإن كان على حقيقته ليس منظوراً، ولكن فيه شبهة، فينبغي أن تتقي تلك الشبهة، وإن كانت في حقيقتها ليس فيها محظور، يفسر لنا ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان معتكفاً، وجاءت صفية رضي الله تعالى عنها لتزوره، ومكثت عنده، ثم قام معها ليلاً ليقلبها إلى بيتها -وكان بيتها شمالي المسجد، فحجرات رسول الله كانت تحيط بالمسجد من القبلة فالشرق فالشمال- فمشى معها من محل معتكفه في المسجد إلى بيتها، فأحس برجلين يمشيان وراءه، فقاصر الخطوات حتى لحقا به ثم التفت إليهما، فقال: إنها صفية، -بين لهم حقيقة الأمر وأنها زوجه، وليس في الأمر أي لبس ولا اشتباه، ولكن الناس عندهم فيها شبهة، إذا رءوا امرأة ورجلاً يمشيان في الليل! - فقالا: سبحان الله، يا رسول الله! فقال: لا، أنا خفت عليكما أن يطرأ عليكما شبهة فتهلكا) ، فعلى كل إنسان أن يستبرئ لعرضة، فمثلاً مشي الرجال مع النساء في منتصف الليل فيه شبهة، فلو أخذت زوجتك تتمشى في ذلك الوقت ويدك في يدها، وهي زوجتك ويحل لك أن تضع يدك في يدها أو على كتفها لكن أمام الناس هل تستسيغه العامة؟! هل يستسيغه الناس؟! هل يجوز مروءة؟! لا، فمن حق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوقفوك، ويسألوك: من هذه المرأة التي معك؟ تقول: زوجتي، فيقولون: هات البطاقة، من حقهم هذا؛ لأنك أوقفت نفسك في موقف الشبهة، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، ويجب عليك أن تبتعد عن مواطن الشبهة، إذا كان مثلاً في بلد من البلدان سوق العسل وسوق السمن وسوق الخمر، فجاء إنسان مسلم وقال: أتفرج على سوق الخمر! معلوم عند الناس أنه لا يمر بهذا السوق إلا زبون هذه المحلات، فهل من حقك أن تمر بها وتقول: أنا -والله- أريد أن اتعظ بهؤلاء المبتلين، الذين عافانا الله مما ابتلاهم به! نقول لك: لا، هذا موقع فيه شبهة، ولا يجوز لك أن تمشي فيه.
كان هناك جماعة يسمون الملاتية، يأتون أفعالاً يلام عليها الشخص، فقيل: لم تفعلون ذلك وقد نهيتم عنه؟ قالوا: حتى يقع الناس في أعراضنا بالغيبة فتكون لنا حسناتهم، لكن هذا تغرير بالناس، ولماذا تضيعون على الناس حسناتهم؟ فلا ينبغي هذا.
إذاً: من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولو كان الأمر الذي تركه ليس حراماً.
ولذا يتوسع مالك رحمه الله في سد الذرائع، وسد الذريعة هو أن تترك من الحلال جزءاً ابتعاداً عن الحرام، وتترك بعض المباح ابتعاداً عما ليس بمباح، وهكذا يستبرئ الإنسان لدينه وعرضه، لدينه فيما حقيقته مشتبه، ولعرضه حتى لو كان في حقيقته حلال ولكن صورته صورة الشبهة، والله تعالى أعلم.