قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه، فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟ يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين.
مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، ولهذا يقول الغزالي وغيره: إذا عرفت إنساناً يتعامل بحلال وحرام فإن في ماله شبهة، وهذا المشتبه إلى أي حد؟ هل تمتنع بالكلية عن أن تتعامل معه؟ وهل تمتنع بالكلية عن أن تأكل طعامه وتقبل ضيافته؟ أو يكون هناك جزء فيه حلال؟ أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف.
قال الله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله.
ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.