قوله: (بني الإسلام على خمس) يقول علماء البلاغة: البنيان للمحسوس بأساس وجدار وسقف، والمعنويات ليس لها بناء، إنما لها تعابير وألفاظ تؤديها، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب والعجم، فيبين ويوضح ويبرز المعنوي الخفي في صورة المحسوس الملموس، وهذا هو أسلوب القرآن، وجميع تشبيهات القرآن عند علماء البيان من التشبيه التمثيلي الذي مبناه على التشبيه والاستعارة، وتفصيله يعرفه طلاب البلاغة.
والقرآن الكريم يبين لنا ذلك، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] .
فهذا الذي يدعو من دون الله ضرب الله له مثلاً، بمن يبسط كفيه إلى ما ليس بقابضه، يفرج أصابعه ويمدها إلى ماء في قعر البئر، أو يجري في النهر ويفغر فاه ينتظر أن يأتي إليه الماء، فهل الماء يأتي لإنسان من قعر البئر إلى يد مفرجة الأصابع؟! تخيل كأن بين يديك إنساناً شديد الظمأ، فاغراً فاه، ماداً يده إلى ماء بعيد عنه، تقول وأنت أمامه: لن يصل إليك شيء.
فلم يقل الله في القرآن الكريم: مثل الذين يعبدون العدم مثل الذي يطلب ما لا يدرك؛ لأن هذا خبر يمر ولا يعلق بالذهن، لكن عند أن يصور صورة لها أجزاء وأبعاض تقف أنت عندها؛ كما يقال: رسوم ساخرة (كاريكاتير) .
وهكذا كما بين في أمثلة القرآن في أمر المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] أتى بحطب وأشعل النار {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] وقبلها: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] فإذا وقفت أنت أمام هذا العرض {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الصيب: المطر، لكن تجد فيه رعداً وبرقاً، تسمع بأذنك فتجزع! ترى بعينك فتخاف، فلكأنك تحكي أو تعايش هذه الصورة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة:19] كأنه وقع بالفعل {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:19] من هذا الصوت الشديد، فأنت حينما تسمع هذا الوصف لكأنك في شدة المطر والظلام، وتسمع الرعد وترى البرق، فهي صورة مكتملة.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (بني الإسلام) والإسلام: اعتقادات بالقلب، وأقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وبيَّن بناءه وقوائمه، فلكأن الإسلام بيت، بل هو حصن، ولكنه حصن حصين، وقوائم هذا البيت ليست مسلحة بالحديد، ولا بالحجر والطين، ولا مبنية بالجيرانيت الذي هو أصلب حجر في العالم، ولكنه مبني بأعمال تستقر آثارها في القلب، وهذه الأعمال أقوى تلاحماً وترابطاً في الأمة الإسلامية من البناء الذي يشد بعضه بعضاً: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) أي: جسد واحد يجمع مائة مليون أو مائتي مليون؟! ملايين المسملين الآن في العالم! المسلمون تعدادهم عظيم، وأي دين يبني بناءً عظيماً كهذا البناء في الأمة الإسلامية؟! ثم أي بناء يرابط بين أفراد البشر، بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجه، وبين القريب والبعيد، فيجعل رابطة الإسلام بينهم أقوى من رابطة نسب الأبوة والبنوة؟! أي بناء إذا جئته لتهدمه بمعول هدمته، ولكن بناء الإسلام أقوى على طول الزمن، وقد ساير الزمن طيلة خمسة عشر قرناً ولكأنه بني بالأمس، لم تخلق لبناته! ولم تتخلخل بناياته! بل هو قائم على قوته ولكأنه أقيم بناؤه اليوم! وهذا هو القرآن الكريم يتلى ولكأنه بالأمس أنزل، تقرأ الفاتحة وتسمعها من الإمام مراراً في كل صبح ومساء فلكأنك تسمعها للمرة الأولى، تقف خلف الإمام في رمضان وتصلي خمساً وعشرين ركعة أو نحوها، تسمع فيها الفاتحة تتكرر على سمعك خمساً وعشرين مرة فلكأن الأخيرة هي الأولى.
وهكذا البناء؛ لأن كل تشبيه له ارتباط بالمشبه به برابط الشبه بينهما، ولكن قد يكون وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به كما هو معروف في التشبيه المقلوب، ولكن هذا تشبيه على وجهه عند البيانيين.