ماذا فعل جبريل بعد ذلك؟ انصرف.
بعض العلماء كـ ابن حجر في فتح الباري يقول: بعض الروايات يذكر فيها قوله: (صدقت) ، كما قالها سابقاً.
والذي يهمنا قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فلبثت ملياً) ، أي: كان القوم لا يزالون جلوساً في هذا المجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا عليّ الرجل) ، أي: هذا الرجل السائل، قال عمر: فطلبناه فلم نجده.
فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم) ، هذه العبارة يستعملها السلف رضوان الله تعالى عليهم حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً، وفعلاً كل ما لم يعلمه الناس يرد علمه إلى الله وإلى رسول الله، والآن إذا سئلت عن شيء هل لك أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو: الله أعلم، وتسكت.
نجد بعض الناس يقول: يجوز أن تقول: الله ورسوله أعلم، وبعضهم يقول: لا تقل الله ورسوله، قل: الله أعلم.
فقط؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا فيه إفراطٌ وهذا فيه تفريط.
والوسط في ذلك: إذا كان المسئول عنه من أمور الدين التي لم يخرج علمها عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أما إذا كان أمراً دنيوياً وحادثاً اليوم فلا ينبغي أن تقول: ورسوله، بل تقول: الله أعلم، وهذا الذي ينبغي الوقوف عنده، وأحسن ما يقال في هذا المقام.
قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، جِبريل، وجَبريل، وجبرائيل؛ كلها لغات في جبريل، وهو مضاف ومضاف إليه، وئيل بمعنى: لفظ الجلالة، ويضاف إليها ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، كلها من باب المضاف والمضاف إليه وهي غير عربية، وهي على حد وزن المضاف عبد الله، فكذلك هنا لفظة: (ئيل) بمعنى لفظ الجلالة.
في نهاية هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين أن هذا الرجل جبريل، وقد أشار عمر رضي الله تعالى عنه في أول الحديث حينما قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) .
هذا النظيف الظريف الذي هو شديد البياض في الثوب والشعر، وليس عليه أثر سفر، ولا يعرفه أهل المدينة: إما أنه من أهل المدينة فيعرفونه، وإما أنه قادم من خارجها فيكون عليه أثر السفر؛ وكل ذلك لم يكن.
إذاً: ليس من أهل المدينة، وليس قادماً من سفر، فلابد من وجود قسم ثالث، ما هو؟ إنه جبريل.
وقد أشرنا سابقاً بأن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، وأن أركان الإيمان الستة كلها غيب، تؤمن بالله، الملائكة، الكتب، الرسل، القدر، البعث، وكلها أمور غيبية ليست محسوسة عندنا، ولكن في هذا الحديث فردٌ من أفراد الغيب، وهم الملائكة، يأتي إلى المسجد ويراه المسلمون بجوار رسول الله، ويخبرهم الصادق المصدوق بأنه جبريل.
إذاً: ركنٌ من أركان الإيمان الستة لم يعد غيباً بل أصبح مشاهداً محسوساً، وأشرنا إلى طبيعة جبريل والملائكة، فجِبريل حينما طلبه رسول الله أن يريه صورته على خلقته العادية ظهر إليه في الأفق وقد سده، والأفق هو ما بين السماء والأرض في منتهى النظر.
وأشرنا إلى أن عالم الملائكة عالمٌ نوراني، أعطاه الله القدرة على التكيف في الصورة التي يشاء، وأشرنا سابقاً إلى رؤية ابن عباس جبريل يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه العباس معه لم يره، وكذلك قصة خديجة لما ذهبت تطلب رسول الله بطعامه ولقيها وسألها: أين محمد يا خديجة؟ قالت: لا أدري، وذهب عنها، ثم جاء إليه بعد أن لقيته، وقال: السلام يقرئ خديجة السلام، أي: أنها لم تخبر بمكانه خوفاً عليه من المشركين.
إذاً: الملائكة قد يراهم الإنس، ثم ها هو صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم) ، جبريل معلم أو متعلم؟ وسائل أو مجيب؟ جبريل سائل، والرسول جعله معلماً، إذاً: المعلم قد يُعلِّم بطرح السؤال، السائل العالم قد يعلم بسؤاله بقدر ما يعلم العالم بجوابه، ولذا قال العلماء: حسن السؤال نصف العلم، وقد وردت مناهج تعليمية من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الناس ليعلمهم، يسألهم فيما يعلمون ليعلموا حكم ما لا يعلمون، وقد سأل مرة عن شجرة مثلها كمثل المؤمن، فذهبوا في أشجار البادية، ثم أخبرهم أنها النخلة.
ولما سألته امرأة عن أم لها لا تستطيع الركوب، أينفعها أن تحج عنها؟ قال: (لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى، قال: فدين الله أحق) ، فاستخلص منها الجواب فيما سألت عنه، وأحالها بما لا تعلم على ما تعلم، وهكذا القياس؛ فهو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق في حكمه؛ لاشتراكهما في علة واحدة.
ويهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، وقد علمهم الإسلام والإيمان والإحسان واليوم الآخر، فجعل صلى الله عليه وسلم الدين عنواناً للإسلام والإيمان والإحسان وما يتعلق بأخبار القيامة.
إذاً: كلمة الدين أعم مسمى، وجاءت الآية الكريمة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] .
إذاً: الإسلام بمسمى، والدين بمسمى يشمل جميع ما جاء به رسول الله، وهناك أمورٌ لم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الإسلام ولا الإيمان وهي من الإسلام والإيمان، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، ولم يذكر في حديث جبريل: أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان ويسلم الناس من لسانك ويدك.
وجاء أيضاً: (الدين النصيحة) ، وجاء في الإيمان: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) ، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا محبته من أركان الإيمان.
وقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله خاب وخسر؟ قال: من لم يأمن جاره بوائقه) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فليكرم جاره فليقل خيراً أو ليصمت) .
الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ وأركان الإيمان ستة، فما هي تلك الشعب؟ قال: (أعلاها: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فلا إله إلا الله هي أول أركان الإسلام، ومع هذا جعلها من شعب الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الأعمال الذي يكتسبها العبد، فجعلها من شعب الإيمان.
وهكذا جمع الجميع أيضاً في الدين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ، إذاً: كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في كتاب الله عن الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، بأي موجب كان؛ فهو دين الإسلام.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.