القسم الثاني من النيات: وهي نية التمييز والتعيين، يقول الفقهاء في قوله: (إنما الأعمال بالنيات) : إن العمل قد يقع ولو لم توجد نية، فالصلاة استقبال وقيام وركوع وسجود إلى آخره، فلو أن إنساناً استقبل القبلة وكبر ووضع يديه وركع ورفع وسجد وسلم، فقد أتى بالصلاة وحصَّل العمل، لكن النية غير موجودة، قالوا: فإن كان في الفريضة فلا تصح فريضة إلا بالنية، وهل تنقلب هذه الصلاة نافلة وتصح أم أنها باطلة؟ خلاف بين العلماء.
ومثل آخر: سنة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، فالذي يميز بين ركعتي الفريضة وركعتي النافلة هو النية، فإذا نوى بالركعتين الأوليين النافلة، ونوى بالركعتين الأخريين الفريضة فقد ميز بين الصلاتين بالنية.
ومثال آخر في باب الطهارة: إنسان في شدة الحر انغمس في بركة أو في حوض، أو دخل تحت الدش يتبرد من الحرارة، وأراد أن يصلي، فلابد له أن يتوضأ؛ لأن نيته ليست لاستباحة الدخول في الصلاة، إنما اغتسل للتبرد.
والخلاف في هذا بين أبي حنيفة رحمه الله والجمهور؛ فالجمهور يقولون: إن النية تكون في الأعمال الأساسية التي هي المقصد، أما الوسائل فلا تحتاج إلى نية، فإذا لبست ثيابك من أجل أن تستر عورتك للصلاة لم تحتج إلى تنوي عند اللبس أن تستر العورة لأجل الصلاة؛ لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وليس غاية.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء أيضاً ليس غاية بذاته وإنما هو شرط لصحة الصلاة، فإذا توضأت للتبرد لا بنية استباحة الصلاة وصليت بهذا الوضوء؛ صحت صلاتك بهذا الوضوء كما صحت صلاتك بذلك الثوب.
والجمهور يقولون: الوضوء بذاته عباده وليس هو مجرد شرط للصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح: (إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت ذنوبه من فيه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل وجهه خرجت ذنوب وجهه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه خرجت ذنوبه مع آخر قطر الماء، ويخرج من الوضوء لا ذنب له، وكانت خطواته إلى المسجد وصلاته نافلة له) ؛ قال الجمهور: فالوضوء بذاته عبادة؛ لأنه يكفر الذنوب.
والرجل الذي وجد امرأة في أقصى المدينة، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت امرأة في أقصى المدينة، وما تركت شيئاً يفعله الرجل مع امرأته إلا فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: أصليت العصر معنا؟ قال: لا، قال: توضأ وصل، فلما توضأ الرجل وصلى نزلت الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فدعا الرجل وقرأها عليه، فقال: ألي خاصة يا رسول الله!! قال: بل لأمتي كلهم) ، قال العلماء: إن وضوءه مع صلاته من مكفرات الذنوب، إذاً فالوضوء عبادة بذاته.
وإذا نظرنا أيضاً إلى أعمال الوضوء وجدناها تدور بين العادة وبين العبادة، فالاغتسال من الجنابة تعميم للبدن بالماء، والاغتسال يوم الجمعة تعميم للبدن بالماء، الاغتسال من التبريد والنظافة تعميم للبدن بالماء، وكل هذه الأغسال في صورة واحدة، فما الذي يميز ما كان واجباً عما كان مسنوناً وما كان عادة؟ النية هي التي تميز ذلك، ولهذا فالجمهور على أن النية شرط في صحة الطهارة.
نأتي إلى الصلاة كما أشرنا، فإذا صلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح لم يفرق بين ذلك إلا النية، وإذا أراد أن يجمع الظهر والعصر، فالنية تحدد الظهر وتحدد العصر وهكذا، إذاً: النية تدخل في العبادات في وسائلها وفي غاياتها.
وهل النية شرط في صوم رمضان؟ قال بعض العلماء: لا تشترط النية في صوم رمضان، فيكفي أن ينوي الصوم، ولا حاجة إلى تعيين النية، فكونه ينوي الصوم فذلك يكفي؛ لأن الإنسان قد يمتنع عن الطعام حمية، وقد يمتنع عن الطعام لعدم رغبة فيه، وقد يمتنع عن الطعام لعدم وجود الطعام، فإن كان في رمضان فظرف الصوم يعيِّن المقصود فلا حاجة للنية عن ذلك.
وقال بعض العلماء: بل النية واجبة، وتكون من الليل.
فإذا كان في غير رمضان، فهناك صوم قضاء رمضان، وهناك صوم كفارة، وهناك صوم تطوع، وهناك صوم نافلة، كالإثنين والخميس، فإذا أراد أحدنا أن يصوم يوماً قضاء أو كفارة أو نافلة أو نذاراً، فلابد من النية لكي يميز نوعية الصيام هنا.
فمن هنا يقول بعض العلماء: (إنما الأعمال بالنيات) أي: تعيينها وصحتها بالنية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصيام بالليل فلا صيام له) .
وبعضهم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أي: كمالها وفضيلتها.
والصحيح: أن كل عمل توقفت صحته على النية فإنه يقدر المحذوف في قوله: (إنما الأعمال) أي: إنما صحة الأعمال بنياتها، وإذا كان يؤدى بغير نية، كدين أخذ من صاحبه، بأن حكم الحاكم على مدين بدفع الدين فامتنع فباع ماله ووفّى الدائن حقه؛ صح السداد، ولا يتوقف سداد الدين على نية المدين؛ ولكن كمال أجر هذا العمل يتوقف على النية.
إذاً: النية تدخل في جميع الأعمال، فهي إما أن تصحح ما يفسد بدونها، وإما أن تكمل وتحسن ما يصح بدونها، ولهذا فالحديث عام في جميع الأعمال التي يتناولها التكليف.