انتقل المصنف إلى صور من الكرامات في الأمم السابقة ثم في هذه الأمة، أما في الأمم السابقة فقد تأولوا هذه الكرامات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال الكثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر مريم عليها السلام).
كما وصف الله جل وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، كرامة من الله جل وعلا.
فزكريا كان يدخل على مريم فيجد فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وهذه كرامة وإظهار لمنزلة مريم عند الله جل وعلا أمام الناس جميعاً.
أيضاً من الكرامات التي حدثت في الأمم السابقة صاحب سليمان ووزيره الذي عَلِمَ اسم الله الأعظم، وهو ولي من أولياء الله الصالحين، صنع الله له كرامة أمام نبي، وهذه تدل على أن الولاية لها مكانة علية، وهي لا تساوي النبوة كما يقول المتصوفة، ولا تتعداها، لكنها قريبة منها، فهذا الوزير أظهر الله على يديه كرامة أمام نبي صادق مصدوق، وهو سليمان عليه السلام، لما أراد عرش بلقيس قال تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، فكان هذا الوزير يحفظ اسم الله الأعظم، فدعا به قبل أن يرتد طرف سليمان، فوجد سليمان عليه السلام عرش بلقيس أمامه، فقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ} [النمل:40].
وأيضاً في الأمم السابقة حدثت كرامة عظيمة جداً، أنطق الله طفلاً رضيعاً كرامة لعبد زاهد تقي نقي، تعبد لله جل وعلا وترك الدنيا خلفه زهداً، من أجل رضا الله سبحانه، هذا الرجل كما في الصحيحين كان عابداً، لكن الفقه ما كان له مرتقىً فيه، وبينما هو يصلي النافلة، إذ جاءت أمه تناديه، فقال: يا رب! أمي وصلاتي! من أقدم؟ فتحير كثيراً ثم قال: صلاتي، فاختار صلاته على أمه، ولكن الفقه يقول: لو دعته أمه وهو في صلاة الفرض لا يجوز أن يستجيب؛ لأنه عند تعارض الواجبات يقدم الأهم والأوجب، فالواجب أن لا يقدم أمه على صلاة الفرض، ولكن إن كانت الصلاة نافلة يقدم أمه على الصلاة، وكثير من الناس لا يعرفون ذلك.
يعني: لو أن رجلاً في صلاة النافلة وأمه دعته يجب عليه أن يخرج من الصلاة ويستجيب لأمه، لكن جريج فضل صلاته، فدعت عليه، وقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فما أماته الله حتى نظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة؛ لأنه لما لم يقطع الصلاة من أجل أمه فقد أساء؛ ولذلك استجاب الله دعاء أمه، وكانت محقة لما دعت عليه، فجلس بعض الشياطين يريدون أن يوقعوا بهذا العابد، فأوزعوا إلى امرأة تفعل الفاشحة من بني إسرائيل أن تختبر صدق هذا العابد، فذهبت إليه، فراودته عن نفسه، ولأنه صادق في عبادته لله جل وعلا أبى، فلما رجعت راودها رجل فلاح مزارع فوطأها، فحملت منه، فلما أنجبت ووضعت الطفل، قالوا: ممن هذا؟ قالت: هذا ابن جريج، فهدموا صومعته.
وهذا فيه دلالة على أن دهماء الناس والعامة لا تأخذ منهم خيراً كثيراً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عامة الناس من هذا الزمان: (إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
فالطائفة المنصورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة قليلة، والذين يخالفونهم ويعارضونهم أكثر، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم).
وهؤلاء العامة ذهبوا ليقتلوا جريجاً، وهدموا الصومعة، وأخذوه، فإذا به ينظر إلى النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فأخذ يعاود نفسه يراجعها كيف لم أبر بأمي؟ وكيف لم أقطع الصلاة من أجل أمي؟ وأصبت بالنظر إلى المرأة التي تفعل الفاحشة بدعاء أمي.
وهذه لفتة مهمة جداً، وهو ضعيف الإيمان في قلوبنا، كل منا تشرأب عنقه حتى ينظر إلى امرأة جميلة، ويظفر بالنظر إليها، ولا يعرف أن هذا الطريق يودي به إلى المهالك؛ لأن الله جل وعلا قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182].
فإنه من الممكن لأي شخص منا أن يطلق بصره على امرأة جميلة تعجبه، وانظروا إلى جريج العابد، فإن المعصية التي فعلها أدت به إلى أمر قد يودي بدينه، وهو نظره إلى اللاتي يفعلن الفاحشة، والنظر إلى اللاتي يفعلن الفاحشة مصيبة أيما مصيبة، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، فهذا الرجل كانت له عند الله مكانة؛ لتعبده وزهده وتقواه وورعه، فإن الله أنشأ له كرامة أيما كرامة، فقد ذهب إلى الطفل فوغزه وقال: من أبوك؟ فقال الطفل: أبي فلان المزارع، نطق أمام الناس، فعلموا أن هذه كرامة له، وبرأه الله على رءوس الأشهاد، فقالوا: نبني لك صومعة من ذهب؛ لأنك ولي من أولياء الله الصالحين، فأبى وطلب منهم أن يعيدوها كما كانت، فالكرامة لا تكون إلا لمن صدق الله، فارتقى إلى منزلة الولاية.
كذلك لا ييئس الذي عصى الله، وارتكب الكبائر، وتجرأ على الله أن يكون ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا رجل قتل مائة نفس ونحن نعلم أن قتل نفس واحدة تكفي للخلود في نار جهنم، ولكن الله جل وعلا جعل هذا الرجل ولياً من أولياء الله الصالحين، فقد قتل هذا الرجل تسعة وتسعين نفساً كما في القصة المشهورة، ووجد الراهب الذي لا يعلم شيئاً عن دينه، فقتله فأكمل به المائة، وذلك حين سأله: هل لي من توبة؟ فقال له الراهب: لا توبة لك، فلقي عالماً فنصحه العالم أن يذهب إلى أرض كذا فيها الخير وأهل الخير، ونصحه بأن يتعاون معهم على البر والتوبة، فلما ذهب مات في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: لم يتب، وهو أقرب إلى أرض العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: ذهب إلى ربه تائباً، فلما اختصموا فصل الله النزاع، بأن أرسل ملكاً على صورة بشر، يفصل النزاع بينهم، قال: قيسوا بين الأرض: التي ذهب إليها ليتوب فيها، والأرض التي خرج منها وعصى الله فيها، كرامة من الله لهذا الولي الصادق الذي تاب توبة نصوحاً، فارتقى إلى الولاية، فقد أمر الله الأرض التي قصدها ليتوب أن تقترب، وأمر الأرض التي عصاه فيها أن تبتعد، ثم أخذته ملائكة الرحمة، كرامة من الله لهذا الولي.
أما كرامات هذه الأمة فهي أعظم وأكبر؛ لأن الله جل وعلا فضل هذه الأمة على باقي الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
فكرامات هذه الأمة وردت وثبتت في السنة في عهد رسول الله وبعد عهده صلى الله عليه وسلم في القرون الخيرية.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.