كان رضي الله عنه وأرضاه عابداً زاهداً فقيهاً عالماً يحرص على طلب العلم الذي ندر في هذا الزمان، ونحن في فتن والله ليس بعدها فتن، وأقسم بربي إنه آلمني ويدمي قلب كل مسلم أن الأصاغر يتكلمون في أمر عظام يتخبطون فيها خبط العشواء، وكأنهم يتقحمون النار على بصيرة، ويتكلمون بغير علم، والمستمع لا علم له، وهذا والله الذي لا إله إلا هو ما وقع إلا بترك العلم، وتصديقاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويتخذ الناس رءوساً جهالاً، فيسألون فيفتون بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)، فتاوى تصل بالناس إلى شفير جهنم، بل تصل بالناس إلى الخروج من الدوائر الصحيحة التي يمكن أن تعتبرها في الدين بسبب الجهل، فالناس في غفلة مميتة مزرية لا يعلمون عن دينهم شيئاً، وأيضاً يتركون طلب العلم؛ لأنهم يحسبون أن العلم كلمة طيبة دون الدراسة التي تعلمهم كيف يتعبدون لله جل وعلا بتوحيد خالص دون أدنى شرك.
فهذا عمر بن الخطاب أمير هذه الأمة كان طالباً للعلم، وكان يحرص على مجالس التحديث إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يعلمهم، وكان إذا شغله الزرع أو التجارة يتناوب مع أخيه الأنصاري حرصاً على العلم، فيجلس الأنصاري المجلس، فيأتيه فيقول: قد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كذا وكذا وكذا، وهو يأتي في اليوم التالي يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل هذا العلم إلى أخيه الأنصاري، حرصاً على العلم؛ لأنه يعلم أنه لن يرتقي عند ربه، ولن ينجو من الفتن والمحن إلا بالعلم، ولذلك شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم وحياً من الله، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أشرب اللبن، حتى بلغ الري أظفاري، ثم أعطيت فضلي لـ عمر، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: أولته العلم).
وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم على فضل وفقه وعلم عمر بن الخطاب، بل وعلى دين عمر بن الخطاب وورعه.
كذلك جاء في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام الناس عليهم قمص -ثياب- ومنهم من يبلغ قميصه إلى ثديه، ومنهم من يبلغ دون ذلك، ورأيت عمر يجر قميصه، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: الدين)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالدين والعلم والفقه رضي الله عنه وأرضاه، ولم لا وقد آتاه الله مقومات العلم؟! فهو المهلم المحدث تتكلم الملائكة على لسانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن قبلكم محدثون، ولو كان في هذه الأمة لكان عمر) يعني: عمر بن الخطاب هو الملهم الذي تتكلم الملائكة على لسانه.
فسرها بعض العلماء بالتفرد في شدة الذكاء، وهذا في عمر حق، وفسرها بعض العلماء بأن الملائكة تتكلم على لسانه بالحق، وإليكم بيان ذلك، فقد وافق ربه في أكثر من عشرين موضعاً من القرآن، قبل أن تنزل الآية يقولها عمر كما في البخاري قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أما الأولى: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله جل وعلا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
والثانية: قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن؛ فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، قبل أن تنزل آية الحجاب، فنزلت: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
والثالثة: أنه لما اجتمع النساء على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، بنفس نص الآية، فهو موفق رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك قال: وافقت ربي في ثلاث، ثم ذكر منها أسارى بدر، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وقال: نأخذ الفدية، وقال عمر: أرى يا رسول الله! أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، ولاء وبراء، تحقيق لركن التوحيد لا إله إلا الله، وعمر يشهرها علناً ولاء وبراء، قال: يا رسول الله! أرى أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، وأرى أن تعطي عقيلاً لـ علي بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وأرى أن تعطي فلان ابن أبي بكر، فيضرب عنقه؛ ليعلم أنه لا هوادة في قلوبنا، ولا محبة لأهل الشرك والكفران، عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال ذلك مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر في أخذ الفدية، فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] فبكى رسول الله وأبو بكر، ووافق الله جل وعلا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك عمر وافق الله في مسألة أخرى، لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الذي قال يوم كذا كذا وكذا، يعني: في غزوة بني المصطلق لما رجع قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله تصلي على عدو الله؟ قال: (إليك عني يا عمر! فإن الله خيرني: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فخيره فقال: استغفر لهم لعل الله يغفر لهم) فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84].
فكان ملهماً موفقاً رضي الله عنه وأرضاه، وأنفع ما يكون من ذلك لما احتار النبي صلى الله عليه وسلم جاءه يستشيره في حادثة الإفك، فقال: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟ قال: الله) كيف زوج الله جل وعلا السيدة عائشة بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ جاءه جبريل بصورتها وقال: هذه زوجك مرتين، فقال: (إن كان الله كتب ذلك فسيقضيه)، فقال له عمر الموفق: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟! قال الله، قال: أرأيت الله يدلس عليك؟!) ما هذا الفقه؟! سبحان الله! ولذلك عقب بعدما قال ذلك، فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: يا رسول الله! أرأيت الله يدلس عليك؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! فأنزل الله الآيات ثم ختمها بقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، موافقاً لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك من مقومات فقه عمر وبيان أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أفقه الصحابة على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر رضي الله عنه قال حذيفة: كأن علم الناس كان مدسوساً في قلب عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونظر إليه ابن مسعود فقال: هذا أفقه الناس بكلام الله جل وعلا.
وقال أيضاً بعض الصحابة: لو وزن علم عمر في كفة، وعلم الأمة أجمعين في كفة لرجحت كفة عمر رضي الله عنه وأرضاه.