الثالث من الواجبات لولاة الأمور: عدم الخروج عليهم، وإن استشرى شرهم، وظهر فسقهم، وعلا ظلمهم، إذ الخروج عليهم يحدث بسببه خراب الدنيا بأسرها، من إراقة الدماء، مع المفاسد العظيمة التي لا يمكن للإنسان أن يحجمها، فيكاد الخروج على ولاة الأمور من أفسد ما يكون، والله جل وعلا أمر الأمة بالتآلف والتحابب، والخروج على ولاة الأمور يقطع هذا التآلف والتحابب.
لقد جاءت السنة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يمنع الخروج على ولاة الأمور.
أما بالنسبة للآيات: فكقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذا على الإطلاق، وينافيه الخروج عليهم، إذ الخروج على ولاة الأمور ليس فيه طاعة، والله جل وعلا أمر بالطاعة لولاة الأمور.
أما من السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مصرحاً في ذلك كما في حديث أنس: (لا تسبوا ولاة الأمور، أو لا تسبوا أمراءكم، ولا تبغضوهم، ولا تغشوهم، واصبروا) فأمر بالصبر وهو مناف للخروج عليهم.
وأيضاً في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: (من رأى منكراً من سلطانه فلينكر عليه سراً).
وفي السنن أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره منكراً فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة فمات فميتته ميتة جاهلية).
يعني: إذا خرج على الأئمة واستشرى الفساد بخروجه مات ميتة جاهلية.
وأيضاً ورد موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) يعني: بخروجه على الأمراء.
وقيل لـ ابن عمر: (بويع لـ يزيد بن معاوية -يعني: استخلف معاوية ابنه- فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان خيراً رضينا وإن كان شراً صبرنا) أي: لم نخرج عليه.
وأيضاً في الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -إلى آخر الحديث، فقال:- وألا ننازع الأمر أهله) هذا نص صريح.
وفي رواية قال: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً).
وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما صلوا، أو قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
وفي رواية قال: (لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
فمنع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج على ولاة الأمور، إلا أن نرى كفراً بواحاً، حتى إذا رأيت كفراً بواحاً وقد كفر بالله مثلاً والعياذ بالله جهاراً أمام الناس علناً دون استحياء، فإنك لا تخرج عليه إلا بضوابط، هذه الضوابط أن تتأكد وتستيقن أن مصلحة الخروج تكون أكبر من المفسدة التي تحدث، أما إذا أتيت بمفسدة أعظم فلا يجوز لك ذلك، حتى مع الكفر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز الخروج إلا مع ضمان عدم المفسدة، ولذلك قيل للحسن البصري: أما رأيت فلاناً قد خرج على الإمام؟ قال: مسكين، رأى منكراً فأراد أن ينكره فأتى بما هو أنكر منه.
فقاعدة المصالح والمفاسد قاعدة معروفة.
قوله: (وأن لا ننازع الأمر أهله) هذا هو فعل السلف، ابن عمر وأبو هريرة وأنس رضوان الله عليهم أجمعين فهؤلاء الصحابة كانوا متوافرين في عصر الحجاج الظالم الذي قلت: اختلف العلماء هل يكفر أم لا، ومع ذلك لم يخرجوا ولم يأمروا بالخروج، ولم يقروا بالخروج بحال من الأحوال، بل صلى خلفه ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فالخروج على الأئمة أفسد ما يكون، فإذا اجتمعت طائفة وكانت لهم شوكة وقالوا: نخرج على الإمام فهذا أمر باطل في الشرع لا يجوز بحال من الأحوال، وهو باطل بالكتاب وبالسنة وبفعل السلف رضوان الله عليهم.
هذا آخر ما نتكلم عليه من باب وجوب طاعة الأئمة وعدم الخروج عليهم.