انتقل المصنف بعد أن صور لنا هذا الخطب العظيم إلى مسألة القصاص؛ لأن أهل الجنة لا يدخلونها وفيهم دنس من أكل أموال الناس بالباطل، أو الحقوق التي عليهم، بل لا بد أن ينظفوا من هذه الحقوق، ويقتص من كل واحد لأخيه حتى يدخل الجنة.
فإن الله جل وعلا لا يترك العباد يدخلون الجنة وعليهم حقوق للآخرين؛ لأن هذه منافاة ومضادة لحكمة الله البالغة سبحانه وتعالى، فهو حكيم عليم، وعدل سبحانه وتعالى، فلا يدخل الجنة أحداً عليه حق لأحد، فإن الله يطهر عباده من هذه الحقوق بالمقاصة، أو القصاص، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم وحث أصحابه أن يتحللوا، ولا يحتفظ أحد بمظلمة لأحد في الدنيا، فإن الدراهم والدنانير تفوت مع الدنيا، أما الحسنات والسيئات فهي أحوج ما يكون يوم القيامة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت لأخيه مظلمة فليتحلل فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار).
أي: ليس في يوم القيامة درهم ولا دينار، قال: (إنما هي الحسنات والسيئات) فتؤخذ الحسنات من الذي عليه الحق إلى الذي له الحق، فإن لم يكن ثمة حسنات فالسيئات التي على من له الحق توضع على الذي عليه الحق).
وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: (لي عبيد -يعني: عمال- يسرقونني ويخونونني، قال: وإني أسبهم، أو أضربهم، أو أشتمهم فما لي أو علي؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنك ستأتي يوم القيامة فيعرض جرم هؤلاء العبيد -من الخيانة والسرقة التي تحدث معك- ثم يقاس فعلك معهم، فإن كان هذا أشد من هذا أخذوا منك حسناتك، وإن كان فعلهم أكبر من فعلك أخذت أنت منهم الحسنات مقاصة عند الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]).
وأقوى في الدلالة وأعظم في البيان أن الله جل وعلا سيقتص من البهائم، حتى النملة من النملة يقتص منها (فإن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى شاتين ينتطحان فقال لـ أبي ذر: هل تعرف لم ينتطحان؟ فقال: لا يا رسول الله، قال: الله يدري فيقضي بينهما) فإن الله جل وعلا سيقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء، فالمقاصة لا بد منها يوم القيامة، فلا يظلم الناس شيئاً.