قال الله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:48 - 49]، الناس في ذلك اليوم على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: صنف يرخي الله عليه ستره وكنفه، ثم يعرفه ذنوبه، فيقول: عبدي أما عملت ذنب كذا يوم كذا؟ أما انتهكت حرمة كذا يوم كذا؟ والعبد يقول: أي رب، أعرف ذلك وأقره، فيرخي عليه ستره، ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.
وذلك من رحمة الله ومن كرم الله.
الصنف الثاني: صنف يناقش الحساب، وهذا الصنف هو الذي يعذبه الله على ذنوبه، ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا، ولا يغفر ذنباً من هذه الذنوب بحال من الأحوال، وهذا الذي لا يغفر له الذنب، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد هلك) وسيأتي بيان ذلك.
الصنف الثالث: صنف مفضوح -نسأل الله أن يرخي علينا ستره في الدنيا والآخرة- والفضيحة الكبرى إنما تكون على عرصات يوم القيامة وليست في الدنيا؛ لأن في الدنيا قد تكون على مجموعة خمسين شخصاًً أو عشرين شخصاً أو بلدة بأكملها أو على الإنترنت، لكن الفضيحة هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للفضيحة الكبرى يوم القيامة، فليس هناك فضيحة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة إلى آخر مخلوق سيخلق عندما لا يقال: الله الله إلى قيام الساعة تعادل الفضيحة الكبرى.
والفضيحة أنواع أيضاً: فضيحة لأهل الإيمان الذين هم من الفسق بمكان، وهم لا يخلدون في النار، وفضيحة لأهل الكفر، أما فضيحة أهل الإيمان فكل غادر ينشر له لواء، فيقال: هذه غدرة فلان، يقرؤها القارئ وغير القارئ، واللواء: علم، فكما أن الناس يسيرون بأعلام يعرفون بلادهم بهذه الأعلام، هذا الرجل أيضاً الغادر له لواء منشور أمام الخلائق أجمعين، يراه رسول الله ويراه آدم ويراه نوح، وينظرون إليه، وأفاضل الخلق سيرون هذه الفضيحة، هذا لأهل الإيمان، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وأما الكافر فهذا بالقول وبالفعل، فيقال عنه على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، لعنة من الملائكة ومن الله ومن أهل الإيمان، يقال: ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: أن صدقة واحدة يمكن أن تنجيك من عذاب الله يوم القيامة.
وأيضاً في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: يدنو المؤمن من ربه فيرخي عليه ستره وكنفه ثم يعرفه يقول: عبدي! هل تعرف كذا؟ يذكر له الذنب الذي أذنبه، وانتهاك الحرمة التي انتهكها، فيقول: أي رب أعرف، فيقر ولا يعترض، فيقول: عبدي! هل تعرف ذنب كذا؟ يقول: نعم رب أعرف، فيقول: عبدي تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب أعرف، فيقر ولا يعترض على ربه، وهذا هو العبد الذي غلبته شهوته، وغلبه هواه، ولكنه خاضع مسكين، يعلم أن أمره بيد ربه، فيقول: رب نعم أعرف، فيقول: (عبدي! سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) وفي رواية: (أغفرها لك اليوم) فيغفرها الله، فهذا المؤمن المذنب.
وأما المنافق -نعوذ بالله من النفاق- والكافر فيقال على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
الصنف الثالث: صنف يناقشون الحساب وتعدد سيئاتهم -والعياذ بالله-، وهؤلاء لا بد أن يدخلوا نار جهنم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية أخرى: (من نوقش الحساب هلك)، فـ عائشة -وهي فقيهة- اعترضت بدليل، فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لها الحجة، ولذلك ما أنكر عليها أنها اعترضت؛ لأن عندها دليل، فإنها قالت: يا رسول الله! أوليس الله قد قال: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك العرض) أي: يعرض على الله، فيعرفه ذنوبه ويقول: عبدي! تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب، فيقر، فيقول الله: (أغفرها لك اليوم).
وقوله: (ذاك العرض، من نوقش الحساب فقد هلك) لا بد لهذا من تفسير، وقد فسره علماؤنا فقالوا: مناقشة الحساب أن يعدد عليه ذنوبه كلها، ذنباً ذنباً، ولا يغفر له منها ذنباً واحداً، كما روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم عن الحسن البصري أنه سئل: ما هو سوء الحساب؟ فقال: أن تعد السيئات أو الذنوب ولا يغفر ذنباً واحداً منها أبداً.
فهذا الذي إذا نوقش الحساب عذب يدخل الجنة وقت ما يشاء الله جل وعلا.
فإذا حشروا وسئلوا ووفاهم الله أعمالهم، أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأدخل أهل النار النار.
ثم ذكر المصنف رحمه الله الميزان، وما الذي يوزن: الأعمال أم الأشخاص؟ وذلك بعد أن بين لنا أصناف أهل الجنة وأصناف أهل النار.