ثم بعد أن بين الإمام الأحوال التي يجوز فيها الكذب وأن الإنسان قد يقع في المحرم دون أن يكتب عليه شيء، ذكر هل يخلد في النار من وقع في كبيرة الكذب أم أنه تحت مشيئة الرحمن؟ وهل تنفعه الشفاعة أم لا؟ فدخل في باب آخر: وهو سياق ما روي في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر.
أقول: الشفاعة في اللغة: هي جعل الوتر شفعاً، فتجعل الواحد اثنين، أما في الاصطلاح: فهي التوسط من أجل جلب مصلحة أو دفع مضرة، سواء بين بني البشر أو بين الله جل وعلا وبين خلقه كما سنبين, والشفاعة حق تام محض صرف لله جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فالشفاعة ليست لأحد، وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه العظيم شفاعة مثبتة وشفاعة منفية: أما الشفاعة المنفية فهي شفاعة الكافرين, قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فهذا نفي عام، ينفي فيه الشفاعة للمشركين كما قال الله تعالى حاكياً لنا على لسانهم أنهم قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] , فهذه الشفاعة منفية عن الكافرين، واستثنت منها شفاعة واحدة كما سنبين لاحقاً.