الشبهة الرابعة: العطف في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، وأصل العطف المغايرة.
فنقول: عطف شيء على شيء إما أن يكونا متباينين -يعني: مختلفين في الجنس- ولا علاقة بينهما فهؤلاء يشتركان في الحكم فقط، مثل قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، فجنس السماء غير جنس الأرض، ومع ذلك اشتركا في الحكم وهو الخلق، بمعنى: أن الله جل وعلا خلق السماء وخلق الأرض، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، جنس الظلمات يغاير ويخالف جنس النور وأيضاً يشتركان في الحكم، فهل الإيمان والأعمال الصالحة من هذا الباب؟
صلى الله عليه وسلم ليسا من هذا الباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي جلس في مؤخرة المسجد ولم يصل: (ألست بمسلم؟ أما صليت معنا)، فربط الإسلام بالصلاة، مما يدل على التلازم بين الإيمان والصلاة، ومر الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل -كما في الصحيح- ينصح أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان)، معنى ذلك أن إيمانه سيظهر عليه بحيائه من الله، وحيائه من الملائكة، وحيائه من الرسول، أو حيائه من الصالحين، فالنبي صلى الله عليه وسلم استدل على أنه لو وجد إيمان في القلب فلابد أن يظهر على أعمال الجوارح.
الثانية: عطف شيء على شيء يتلازم معه، حتى لو كانت الأجناس مختلفة، مثال ذلك قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فطاعة الله وطاعة الرسول متلازمان، فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهنا عطف طاعة مستقلة لله وعطف طاعة مستقلة للرسول، لكن هذه الطاعة المستقلة لله والطاعة المستقلة للرسول متلازمان؛ لقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والإيمان والأعمال الصالحة تدخل في هذا القسم؛ لأن من لوازم الإيمان القلبي عمل الجوارح.
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، فالمحبة عمل قلبي ومع ذلك استلزمت عمل الجوارح وهو الاتباع، يعني: اتباع الرسول في صلاته، ونومه، وفي إتيانه لنسائه، وفي سنن العبادات والعادات، فإنك إن عملتها اتباعاً أجرت عليها.
ومن ذلك أيضاً حديث في الصحيحين وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب)، فالقلب إذا صلح بالإيمان ظهر هذا الصلاح على الجسد وهو الجوارح، فإذاً: الأعمال إذا عطفت على الإيمان يمكن أن تدخل من هذا الباب وهو باب التلازم، يعني: عطف اللازم على الملزوم، من أنه إذا وجد الإيمان في القلب لزم أن يظهر على الجوارح، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن وجد في القلب إيمان تام فلابد أن يظهر على الجوارح، فإذا انتفت أعمال الجوارح انتفى إيمان القلب، فإن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، فالعطف هنا يدخل من باب التلازم، وبهذا يرد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، فنقول: بل هي من الإيمان، فهي إما في دائرته وإما متلازمة معه، وإن كانت الدائرة غير الدائرة لكن هناك تلازم، بمعنى: أنه لو انتفى سقطت الدائرتان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
النوع الثالث في العطف: عطف خاص على عام، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، لكنه خص بالذكر للتأكيد.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلاة الوسطى هي صلاة من الصلوات، فعطف الخاص على العام؛ ليدل على التأكيد، يعني: أؤكد على هذه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد وتر أهله) أي: قطع أهله، ولم تكن فيه بركة، أو حبط عمله كما في بعض الروايات.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) مع أن النساء من متاع الدنيا كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، إلى أن قال: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]، فهو عطف خاص على عام للتأكيد.
ونقول: الإيمان أيضاً يمكن أن يدخل من هذا الباب، فقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة)، فهو يدل على أن هذه الجزئيات كلها جزء من كل، فكأن الإيمان شجرة كبيرة وكل غصن من هذه الأغصان جزء من هذه الشجرة، فإذا أفردت الحياء فقط وعطفته على الشجرة، فجزء من الشجرة عطفته على الشجرة، وهو الخاص على العام.
إذاً نقول: العطف الذي احتجوا به في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، خاطئ ولا دلالة لهم فيه؛ فإن هذا العطف إما عطف تلازم وإما عطف خاص على عام، وهذا أيضاً لا يخرج الأعمال من دائرة الإيمان.
فهذا هو الرد على المرجئة، وهم مع ذلك أقرب الطوائف إلى أهل السنة خاصة مرجئة الأحناف.