هناك سؤال يطرح نفسه ألا وهو: هل الكبائر كفارة؟ أقول: لقد اتفق العلماء على أن للصغائر كفارة لكن النزاع في الذي فعل الكبيرة ثم لم يتب، فهل فعل الحسنات يكفر الكبيرة، كما جاء في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، يعني: أن كل سيئة إذا أتبعتها بحسنة فإنها تمحها، لكن هل الكبائر تدخل في هذا الباب؟ وهل الحديث على إطلاقه أم هو مقيد بالصغائر؟ هذا هو محل النزاع.
أقول: هذه المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الكبائر لها مكفرات، من صلاة، ووضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والحج، بعد الحج والعمرة بعد العمرة، ورمضان إلى رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن).
هذه الرواية جاءت مطلقة، لكن هناك رواية أخرى جاءت مقيدة، حيث قال فيها صلى الله عليه وسلم: (ما اجتنبت الكبائر).
وعمدة أدلة أصحاب هذا القول -وهو من أقوى ما يكون-: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه في مجلس التعليم، ويضرب لهم الأمثال حتى يقرب المعلومة إلى الأذهان، فقال لهم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء) أي: لا يبقى من درنه شيء من صغائر وكبائر ثم قال: (كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)، أي: أن الصلوات الخمس مثل النهر تنزل على معاصي المرء فتبيدها، بحيث لا يبقى من الكبائر ولا من الصغائر شيء، لكن ليست تلك الصلوات التي نصليها هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكفر الكبائر والصغائر؛ لأن هذه الصلاة التي نصليها فيها نقص، ونرجوا من الله أن يتقبل منها الربع فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه الأمر دخل في الصلاة، ويتدبر كلام الله تعالى، ويتدبر التسبيح في الركوع والسجود، ويتمهما.
وهذا عروة بن الزبير رحمه الله لما دب السرطان في رجله، قالوا له: لا بد أن تشرب الخمر حتى نقطع رجلك؛ لأنك لا تحتمل، فقال: لا، إن شرب الخمر حرام، مع أنه ضرورة من الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن كان الرجل قلبه منشغلاً بربه، فقال: لا، لكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها، فلما كبر وبدأ في القراءة قطعوا رجله، قالوا: فما شعر بها إلا بعدما حسمت وأغمي عليه، رحمه الله تعالى.
فهذه هي الصلاة التي تكفر الكبيرة.
وهذا أخوه عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قام فصلى أمام الكعبة طرح كل شيء خلفه، ذكر ابن كثير -كما في البداية والنهاية-: أنه صلى أمام الكعبة حين حاصره الحجاج عليه من الله ما يستحق، وهو في صلاته، فقذفه بالمنجنيق وكان مشتعلاً ناراً، فتدحرج النار على رجله، ولم ينتفض ولم يتحرك، بل أعظم من ذلك أنه صلى مرة قيام الليل وكان له ولد صغير عنده، فجاءت حية فالتفت على الولد وصرخ أهله وصرخ الجيران والتف الجيران من كل مكان من أجل أن الحية التفت على ولده، وهو في صلاته لم يعلم شيئاًً مما يحدث، فتركت الحية الولد، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، فصلاح الأب يحفظ الأولاد.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الصالحين.
إذاً: فهذه الصلاة هي التي تكفر الذنوب، وهي التي لا تبقي شيئاً من درن العبد، واستدلوا أيضاً بحديث الحج، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
قالوا: فهذا فيه دلالة على أن الحسنات تكفر الكبائر والصغائر.
القول الثاني: قول الجمهور: وهو أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة الخاصة، واستدلوا على ذلك بأن كل الروايات التي أتت مطلقة قيدت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فهذا التقييد من النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة على أن الكبائر لا تكفر بالحسنات.
وأما حديث الحج: فتلك مسألة خاصة، فليس كل من ذهب إلى الحج يرجع كيوم ولدته أمه، بل لا بد من صفات تتوافر في هذا الحاج، وهي أنه لم يرفث ولم يفسق، حتى يرجع كيوم ولدته أمه.
لكن نحسن الظن بالله جل وعلا ونميل إلى أصحاب القول الأول، أي: بأن الصلوات والجمعة إلى الجمعة والحج تكفر الكبائر والصغائر؛ فإنا لا نقدر على عذاب الله جل وعلا ولا نقوى على سخط الله.
رفعنا الله وإياكم إلى الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.