ثم بعد ذلك أتى بباب كامل في الكلام على أبي حنيفة، وأبو حنيفة هو الإمام العلم الذي اتبع الناس مذهبه، وكان علماً من أعلام الأمة، حتى قال فيه الشافعي: الفقهاء عيال على أبي حنيفة.
وكان من الزهاد العباد، ومن العلماء الذين ظهر فيهم الرأي أكثر من الأثر، وهذا له أسبابه؛ وذلك لأن أبا حنيفة كان في العراق، والتشيع كان موجوداً في العراق وفي بلاد فارس، فكان الشيعة الرافضة يختلقون الأحاديث في فضائل علي، ويختلقون الأحاديث في ذم معاوية، فكان أبو حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه ينأى بنفسه أن يأخذ حديثاً من عراقي، حتى قال: لا تأخذ حديثاً من عراقي، وأيضاً كانت بلاد فارس تدخل على العراق؛ لأن الحدود والتخوم كلها متقاربة، فكانت المسائل تستجد على أبي حنيفة فلا يجد أثراً، والعلماء الجهابذة النقاد الذين يخوضون في الأدلة، عندما تستجد عليهم مستجدات، فإنهم ينظرون في الدليل، ثم يقيسون عليه.
ويقول الإمام مالك في أبي حنيفة في مجلس التحديث في المدينة: لو ناظرني أبو حنيفة على أن هذا الجدار، ذهب لأقنعني به، وهذا من رجاحة عقل أبي حنيفة وقوته، فكانت الأئمة تثني الثناء الحسن على أبي حنيفة، لكن أخذ عليه كثيراً في مذهبه أنه لم يكن يتبع الأثر ويقدم الرأي عليه، وقلنا: إن العلة في ذلك: أنه لم يكن يأخذ أحاديث العراقيين، وأيضاً أبو حنيفة لم يكن محدثاً ولا راوياً، فضعفه بعض العلماء في مسألة النقل والرواية، أما الكلام الذي نقل عنه في هذا الكتاب فضربت عنه صفحاً؛ لأن فيه أن أبا حنيفة استتيب، وفيه أن أبا حنيفة كان مرجئاً؛ وكان يقول للزاني: أنت مؤمن، فإن قال له الزاني: أنت الذي تقول أني مؤمن، قال أبو حنيفة؛ أنا أخطأت حين قلت لك: إنك مؤمن، إلى آخر هذه الحكايات التي رويت في كتاب تاريخ بغداد للخطيب وغيره.
لكن نقول: هذه الحكايات كلها لم تثبت عنه ولم نر سنداًً صحيحاً بذلك، بل لو ثبتت لقام هؤلاء الأعلام المشاهير كـ الشافعي ومالك وأحمد بذم أبي حنيفة ولبينوا عواره.
وهناك دلالة بينة واضحة على براءة أبي حنيفة من مثل هذه الحكايات وذلك أن الله جل وعلا كتب لمذهبه القبول، فكل الأعاجم يأخذون بمذهب أبي حنيفة، وسمعت أن أهل أفغانستان يكادون يقتتلون لو أن واحداً خالف مذهب أبي حنيفة، ومعلوم أن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: (أن يا جبريل إني أحب فلاناًَ فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، وقد كتب الله القبول لهذا العلم العالم الجهبذ في الأرض، فنضرب صفحاً عن هذا الكلام الذي نقل عنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.