أما الخوارج فيستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل نفسه: (هو في النار).
ونقول لهم: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) على بابها، وهي محمولة على أنهم يستحلون أكل مال اليتامى، وقد حرمه الله، فيكون الاستحلال قد أخرجهم من الملة، وكفروا بهذا الاستحلال، فيمكثون في النار، وهذا له قرائن كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً نقول: إن النار ناران: نار الموحدين ونار الكفار، فهؤلاء سيصلون سعيراً، وهي نار الموحدين، فيبقون فيها قدر الكبيرة التي اقترفوها، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى الجنة.
نسأل الله ربنا أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من أول وهلة.
وأما الرد عليهم في استدلالهم بالأحاديث: فنقول: إن الكفر كفران، كفر أكبر يخرج من الملة، ويخلد صاحبه في النار، وكفر أصغر لا يخلد صاحبه في النار.
وهذا التقسيم من استقراء الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
وهذه الأدلة ونحوها الأصل أنها على بابها، فتكون كفراً أكبر، إلا أن تأتي قرينة تبين أنه ليس المقصود بها الكفر الأكبر.
ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] سماهما مؤمنين.
فإذاً هذه طائفة مؤمنة، وهذه طائفة مؤمنة، مع أنهم يتقاتلون.
فيكون الكفر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ليس المقصود به الكفر الأكبر، وإنما المقصود به كفر آخر، وهو الكفر الأصغر.
وكذلك نقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
أما الدليل الآخر الذي استدلوا به: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان هما بهم كفر: النياحة على الميت والفخر بالأحساب)، فإن النياحة على الميت كفر من هذا الباب، أي: كفر أصغر؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المرأة التي تنوح تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران تعذب به في عرصات يوم القيامة، ثم ترى سبيلها إما إلى النار وإما إلى الجنة.
والكافر مآله إلى الخلود في النار، وهذه المرأة إذا كانت ترى سبيلها إما إلى الجنة وإما إلى النار فهي ليست بكافرة.
إذاً: ليس المراد في هذا الدليل بالكفر الكفر الأكبر.
وأما الصنف الثالث من أدلتهم: وهو البراءة من الفاعل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) بقوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فنقول: إن البراءة براءتان: البراءة الأولى: براءة من الشخص كليةً، وبراءة من العمل.
فإذا كانت البراءة من الشخص كليةً فمعنى ذلك أن هذا الرجل كافر خارج من الملة، ولا بد أن نتبرأ منه، فلا نجالسه، ولا نواليه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم} [الممتحنة:4]، أي: الكفار {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4].
فهذه براءة من الشخص كلية، ومن كل أفعاله؛ لأن كل أفعاله كفر فخرج بها من الإسلام، وأحاط الكفر به من كل جانب.
والبراءة الثانية: براءة من العمل، يعني: أن هذا العمل يشابه عمل الكفار، ففيه شبه من الكفار، ولكن الشخص كله ليس بكافر.
والدليل على ذلك أولاً: قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216].
فتبرأ من عملهم، فالبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، لكن البراءة من الشخص كلية تخرجه من الملة.
ثانياً: لما جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه قوماً فقالوا: صبأنا صبأنا ولم يستطيعوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد).
ولم يقل: من خالداً، ولم يكفر خالد رضي الله عنه وأرضاه، بل هو سيف الله المسلول، وأسد من أسد الله.
إذاً: تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد فتبين بهذا أن البراءة براءتان، وأن المقصود بها في حديث: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين) البراءة من العمل والفعل، لا البراءة من الدين.
أو أن المقصود: البراءة مما هو عليه من كفر.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر، بمعنى: أنه لو قال دون أن يعمل فليس بمؤمن، ولو عمل دون أن يقول فليس بمؤمن، ولو لم يكن هناك نية -وهي: الاعتقاد الصحيح في القلب- فليس بمؤمن.
يقول الإمام البخاري: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول فقط.