أهل السنة والجماعة لا ينزعون عن العاصي مطلق الإيمان فيقولون: إنه كافر، ولا يطلقون عليه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، بل يقولون: هو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه.
وأدلتهم على ذلك ما يلي: أولاً: حكمه في الدنيا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع وعين القدر.
فننظر إليه بعين القدر فنقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، فعلنا لو كنا في موقفه لكنا فساقاً مثله، ولكن الله عصمنا من ذلك.
ثم ننظر إليه بعين الشرع، فنبغضه ونبغض فعله ونهجره لعله يرجع، وننصحه في الله، ونأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر.
فهذا هو حكمه في الدنيا.
أما حكمه في الآخرة عند أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه على سيئاته، ثم بعد ذلك يدخله الجنة، كما في حديث الشفاعة عنه صلى الله عليه وسلم، أنهم يصيرون حمماً بعدما يعذبون من الكبائر التي اقترفوها، أو يدخله الله الجنة من أول وهلة ويغفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قالوا: والأدلة على ذلك كثيرة، منها: أولاً: أن الله جل وعلا بين أن الذي لا يشرك به مآله إلى الجنة، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وفي رواية: (من قال: لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه دخل الجنة).
وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً).
فالشاهد فيه: أن الذي لا يشرك بالله شيئاً لا يعذبه الله، أي: يدخله الجنة.
ويستدلون أيضاً بالأحاديث التي يستدل بها المرجئة.
إذاً: فالدليل الأول عند أهل السنة الجماعة: أن الله بين أن الذي لا يشرك به شيئاً مآله إلى الجنة، وإذا كان مآله إلى الجنة فهو ليس بكافر؛ لأن الكافر مخلد في النار.
ثانياً: إن الله أطلق اسم الإيمان على الذي اقترف المعاصي، فسماه مؤمناً، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، والقتال من أشد الكبائر، ومع ذلك سماهم مؤمنين.
ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ابني هذا سيد -أي: الحسن - وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فسماهما: مسلمين.
والطائفة الأولى: هي طائفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ومن معه، والطائفة الثانية هي طائفة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ومن معه.
فلم ينف عنهم اسم الإيمان، وأيضاً أهل الكبائر سماهم مؤمنين، وإذا سماهم مؤمنين فقد نفى عنهم اسم الكفر.
ثالثاً: أن كل من اقترف كبيرة فأقيم عليه الحد فإن الحد كفارة له، وذلك كما في قصة الغامدية، فإنه لما ضربها خالد بالحجر فانتثر الدم عليه فقال: لعنة الله عليك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبها، -أي: لا تلعنها- إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)، وفي الرواية الأخرى: (لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)، فسمى هذا الحد توبة.
وفي الطبراني والنسائي حديث صريح في ذلك: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجم كفارة لما صنعت).
وفي حديث عبادة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً)، وقال في نهاية الحديث: (فمن اقترف ذلك فأقيم عليه الحد فمن عوقب به فهو كفارة له).
إذاً: فالحد كفارة، وإذا كان لهم كفارة فليس بكفر.
وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه} [المائدة:38]، ثم بعد ذلك بين أن الله غفور رحيم.
ومن الأدلة أيضاً: إجماع السلف، فقد أجمعوا على أن من أقيم عليه الحد فإنه لا يسأل عنه يوم القيامة.
رابعاً: أن بعض الأدلة جاءت وأثبتت أن أهل الكبائر يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها، يعني: لا يخلدون في نار جهنم.
وأصرح ما يكون من هذه الأدلة حديث الشفاعة، فعندما يشفع الله المؤمنين في إخوانهم فيقولون: ربنا إخواننا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا.
فالله جل وعلا يشفعهم فيهم، فيذهبون فيخرجون من النار من يعرفونهم، ثم يشفع الله الملائكة، فيعرفون أهل الإسلام بعلامة الصلاة، أي: بمواضع السجود؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود.
ثم بعد ذلك يقبض الرحمن قبضة فيخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو وزن شعيرة من خردل من إيمان.
ففي هذا دلالة أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في نار جهنم.
خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر، والشفاعة ممنوعة للكافرين، ولا تقبل عند الله بحال من الأحوال، فالكافر لا يُشفع فيه، إلا لـ أبي طالب استثناءً واحداً؛ كرامةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسديداً لهذا الرجل الذي ذب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر حتى يدخلوا الجنة، ويخرجوا من النار.
فهذه أدلة واضحة جلية تثبت أن أهل الكبائر في مشيئة الرحمن، إن شاء عذبهم ومآلهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، فدخلوا الجنة من أول وهلة.
فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل الكبائر ليسوا مخلدين في نار جهنم، بل هم تحت المشيئة.