ولكي تقبل التوبة يجب أن تتوفر فيها شروطها، وهي ثلاثة إذا كان الذنب بين العبد وبين الله، وأربعة إذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي على التفصيل الآتي: الشرط الأول: الندم على ارتكاب المعصية، فلا يتصور في عبدٍ مصر على معصية، يتغنى بها، ويباهي بها الناس، ويحارب الله جل وعلا بها، وينشرها بين الناس، أنه يتوب، أو أنه يريد أن يتوب.
فالذي يتوب بحق هو الذي لابد أن يكون في قلبه الحسرة والألم على أنه تجرأ على محارم الله جل وعلا، فالندم أول شروط التوبة، كما في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، فحتى تكون التوبة مقبولة عند الله لابد أن يتوفر فيها الندم.
وعندما أقول: للتوبة شروط حتى يقبلها الله، فهذا يعني: أنه إذا اختل شرط منها فإنها غير مقبولة عند الله جل وعلا، فإن كانت الشروط خمسة، وأتى بأربعة، فإنها لا تقبل عند الله جل وعلا.
الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب، فإن العبد إذا قال: أريد أن أتوب، أو أنا نادم على ما فعلت، وهو مصر على ذنبه، فهذا مستهزئ والعياذ بالله، وقد يصل إلى الكفر؛ لأنه يقول: أنا أريد أن أتوب، وهو يزيف هذا في قلبه بحبه لهذه المعصية، كما ورد عن بعضهم أنه يدخل ليزني ويقول: التوبة يا رب، فهذا استهزاء، وقد يصل به إلى الكفر، فلابد من الإقلاع عن الذنب، وهذا هو الشرط الثاني للتوبة، حتى تكون مقبولة عند الله جل وعلا.
الشرط الثالث: العزم على عدم فعل هذه المعصية، أي: العزم على عدم الرجوع للمعصية، وإلا فلا يكون صادقاً عند الله جل وعلا.
وهذه الشروط إذا كان الذنب بينه وبين الله جل وعلا، أما إذا كان الذنب في حق للآدمي، فلا بد من شرط رابع ينضم إلى هذه الشروط الثلاثة، والقول فيه كالتالي: الشرط الرابع: إرجاع الحق إلى صاحبه، فلا تكتمل التوبة في عبد غصب أو سرق أو اغتاب أو سب أو شتم، حتى يتحلل من ذلك، وحتى يرد الحقوق إلى أهلها، فيتحلل مما بدر منه بلسانه من سب أو شتم أو غيبة، وذلك بطلب السماح من الشخص الذي ظلمه، هذا هو الشرط الرابع، له صور: الصورة الأولى: أن يكون قد اغتاب امرأ مسلماً في مجلس، فتوبته لابد أن تتوفر فيها الشروط الثلاثة أولاً، أما الشرط الرابع، فعند الجمهور أنه لا تكتمل التوبة حتى يذهب إلى الذي اغتابه، فيقول له: قد اغتبتك، وأنا أتحلل منك، أي: اقتص مني، أو سامحني، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما سب عمر بعد غضبه منه، ذهب إليه ليستسمحه، فـ عمر لم يرض، أي: أن أبا بكر أراد أن يقتص عمر منه، أو أن يتحلل مما فعل مع عمر وأيضاً ورد أنه سب بعض الأنصار فقال الأنصاري: يغفر الله لك، فقال أبو بكر: لابد أن تقتص مني، الآن تسبني؛ لأنه يعلم أن التوبة لا تكون إلا بذلك، قال: يا أبا بكر لا أقتص منك، يغفر الله لك.
فالغرض المقصود: أنه لابد أن يتحلل، والجمهور استدلوا على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل، فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، ولكن الحسنات والسيئات)، فعلى عرصات يوم القيامة ليس هناك دراهم ولا دنانير، بل هي حسنات تؤخذ من المغتاب أو من الغاصب أو من السارق أو من القاتل، تؤخذ من صحيفته إلى صحيفة هذا الذي وقع في حقه أو عرضه.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له قول آخر، غير قول الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف، وقوله هذا ترجيح للرواية الأخرى عن الحنابلة، حيث قال: إن المغتاب لا يذهب ويتحلل ممن اغتابه، بل له أن يتوب إلى الله جل وعلا، بأن تتوفر فيه الشروط الثلاثة، ثم بعد ذلك يذهب إلى المجلس الذي اغتاب فيه نفس الرجل، فينشر محاسن هذا الرجل، وحجته في ذلك حجة عظيمة؛ لأنه يغوص في المعاني، وينظر إلى مقاصد الشريعة، فقد قال: لو ذهب الرجل إلى الذي اغتابه وقال له: اغتبتك، أو سببتك، أو انتقصت من قدرك، لحدثت المشاحنة والمشاجرة بينهما، ويمكن أن تصل إلى القتال، فإن العرب قديماً كانوا يقتتلون على جمل أو فرس أو أي شيء، فما بالك بالمسبة، فنظر رحمه الله إلى ذلك وقال: حتى تتآلف القلوب، ويكون الوئام منتشراً بين الناس، فلا يذهب ولا يتحلل منه لكن يستغفر الله، ويدعو له، ثم ينشر محاسنه بنفس المجلس الذي سبه فيه.
ونحن نقول الراجح من ذلك هو التفصيل، وهذا التفصيل يكون على أمرين: الأمر الأول: هو أن تنظر في حال الذي وقعت في حقه الغيبة، فتنظر فيه وفي شخصيته وأخلاقياته ودينه، فإن كان تقياً ورعاً سليماً مسامحاً، فهذا وجب عليك أن تذهب إليه، وتتحلل منه، وتصرح له أنك وقعت فيه؛ لأنه بدينه وورعه وتقواه، سيسامحك، أو يقول لك: أقتص منك الآن، ولن تحدث المشاحنة بعد ذلك؛ لأنه يعلم من دين الله جل وعلا أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل، في المرة الأولى والثانية والثالثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فيخرج نفس الرجل)، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص، ذهب إليه لينظر اجتهاده في العبادة، فوجده في الليل نائماً، فقال: لعله إذا أرخى الليل سدوله قام الرجل يصلي لله جل وعلا، فقد شهد له النبي بالجنة، فوجده نائماً طوال الليل، ثم في النهار قال ابن عمر: يصوم النهار، فلعله بالصوم بلغ ما بلغ، فما وجده صائماً، فلما استشكل عليه هذا الأمر، كيف لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لك بالجنة، فقال: والله يا هذا ليس عندي كثير صيام ولا صلاة، ولكني أبيت وليس على أحد في قلبي شيء، وهذا مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)، فهذا يجب على المرء أن يتحلل منه، فيذهب ويقول له: سببتك في مجلس كذا، وأنا أريد أن أتحلل منك؛ لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه؛ لأنه ليست ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، بل هي الحسنات والسيئات).
الأمر الثاني: أن يكون الرجل ليس بهذه الصفات، أي: ليس دينا ولا ورعاً ولا تقياً، بل رجل قلبه غليظ، وهو سريع الغضب، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (سريع الغضب بطيء الرضا)، فهذا -عملاً بمقاصد الشريعة- لا يجوز لك أن تتحلل منه، أي: لا يجوز لك أن تذهب إليه وتقول: أنا سببتك، أو اغتبتك أو وقعت فيك؛ لأنه سيأتي بمفسدة أعظم من المصلحة المرجوة، والقاعدة الفقهية تقول: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن كانت المصلحة أن يتحلل منه حتى لا تكون هذه الغيبة في صحيفته، فإن المفسدة أعظم، وهي التقاتل والتدابر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولعل الله يرضي هذا الشخص يوم القيامة فيعطيه من حسنات غير حسنات هذا الرجل، ويقول خذ بيد أخيك وادخل الجنة.
الصورة الثانية: رجل أكل على رجل آخر مالاً، أو أكل أموال الناس بالباطل، سواء في معاملة تجارية، أو في قضية نصب، أو قضية غصب، فحتى تكتمل التوبة، فلا بد من أن توفر الشروط الثلاثة، والشرط الرابع أن يتحلل من صاحب المال، وقد اتفق العلماء على أنه يجب عليه أن يرد هذا المال لصاحبه، فإذا ذهب إلى الرجل فلم يجده، فإنه يرده إلى الورثة، فإن لم يجد هذا الوريث، فيعطي الذي بعده، فإن لم يجد له ورثة، ولا يستطيع أن يصل إلى هذا الرجل -الذي يريد أن يرد عليه الحق- فله في ذلك طريقان: الطريق الأول: أن يتصدق بهذا المال لهذا الرجل، يعني: ينوي أن هذه الصدقة لهذا الرجل الذي أخذت منه المال ولم أجده، وهذا بشرط أنه لم يجده، فإن وجده وفعل ذلك، فإنه يضمن، يعني: لو أخذ مالاً من عمرو، ثم أراد أن يتوب، ولم يبحث عن عمرو حتى يرد له المال، بل تصدق به بنية أنه عن عمرو، ثم خرج عمرو وظهر، فإنه في هذه الحالة يضمن له هذا المال، ويجب عليه أن يرده لعمرو؛ لأن شرط التصدق عنه أن لا يجده أولا يجد له وريثاً، فإذا توفر هذا الشرط وتصدق عنه فلعل الله جل وعلا أن يرضيه يوم القيامة بهذه الصدقة، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه اشترى جارية، ثم قام ليعطي المال أو حق الجارية للرجل فلم يجده، فبحث عنه وجد في البحث فلم يجده، فقال: اللهم هذه الصدقة عن رب الجارية -أو حاكم أو مالك هذه الجارية- فتصدق بها، وقال: فإن رضي في الآخرة بهذا الصدقة، فهي له، فإن لم يرض فهي لي، ويأخذ من حسناتي ما يكفيه لهذا الثمن أو لحق الجارية.