الوحي لغةً: هو الإلهام بخفاء، أو الإعلام بسرعة وصدق، والوحي يمكن أن يشترك فيه بعض الأولياء مع الأنبياء والرسل، ويمكن أن يوحى إلى بعض الأولياء وذلك بالإلهام.
وسنبين أن الإلهام وحي، وذلك كما في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111]، فقال: (أوحيت) باللفظ الصريح، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وهذا الوحي يسمى: إلهاماً، ويمكن أن يأتي الوحي بمعنى الإشارة قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11].
وأيضاً يشترك الأنبياء في هذا الوصف، ولكن بالنسبة للأنبياء هو نفث في الروح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها).
فالوحي مراتب: أولها: الرؤيا الصالحة، فالرؤيا من مقامات ومراتب الوحي، ورؤيا الأنبياء حق لا بد أن تبلغ فهي شرع، قال الله تعالى -مبيناً ذلك عن إبراهيم عليه السلام أنه قال-: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فهذه رؤيا وهي وحي وشرع؛ لأنه أخذ ابنه وتله للجبين يريد أن يذبحه، إذاً: فهذا وحي وهو أمر لا بد أن يعمل به.
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان بدء الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا فتكون كفلق الصبح) يعني: تتحقق كفلق الصبح، وكانت هذه بداية الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: أن يكلمه الله بصوت مسموع، وهل الله جل وعلا يتكلم بصوت؟ نعم يتكلم الله بصوت مسموع، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10].
ووجه الدلالة: أن النداء لا بد أن يكون بحرف وصوت، فالله جل وعلا يتكلم مع الرسول البشري من وراء حجاب، والرسول البشري يسمع صوت الله جل وعلا، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143].
وأيضاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه الله وحياً من وراء حجاب، وذلك لما عرج به، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يترد بين الله عز وجل وبين موسى عليه السلام، فيقول: (فرض الله عليّ خمسين صلاة، فقال موسى عليه السلام: أمتك لن تستطيع، فارجع إلى ربك فليخفف عنك، فيرجع إلى ربه، فيكلمه، فيسمع من الله جل وعلا، حتى وصل إلى أن الله جل وعلا قال: هي خمس في العمل وخمسون في الأجر، لا يبدل القول لدي).
ثالثها: أن يرسل الله الرسول الملكي جبريل عليه السلام إلى الرسول البشري فيوحي إليه، وكانت هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على مراتب: الأولى: أن يأتيه وهو في غار حراء فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع صوتاً ويرى ضوءاً، وذلك توطئة للرسول صلى الله عليه وسلم لكي يتهيأ للوحي.
الثانية: لأت يأتيه على صورة بشر، وهذه أسهل المراتب في الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتي على صورة دحية الكلبي؛ لأنه كان من أجمل الناس وجهاً، وعندنا حديث ظاهر جداً أن الملك يأتي على صورة البشر ألا وهو حديث الإيمان، وهو عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دخل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، ثم أسند ركبتيه إلى ركبتيه) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فهذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم)، إذاً: فأتاه على صورة بشر.
الثالثة: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتاً كصلصلة الجرس، وهذه شديدة عليه، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي، وهو يسمع حتى يعي ما يقال له، ثم يبلغ.
الرابعة: أن يرى الملك على صورته، والنبي صلى الله عله وسلم لم ير الملك على صورته إلا مرتين: المرة الأولى: مرة عندما كان في الغار، فرأى ملكاً بين السماء والأرض رجله إلى الأرض، وهو جالس على كرسي في السماء، فلما نظر إليه وقد سد الأفق خاف النبي صلى الله عليه وسلم وذعر، وذهب إلى أهله فقال: (زملوني زملوني)، لأنه رأى منظراً لا يمكن أن يتحمله أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر، وهو المرتفع المرتقي عند ربه وهو الشفيع، لما رأى هذا الملك خاف وذعر، وقال: (زملوني زملوني) فكيف يفعل المرء عندما يرى الملكين في القبر حين يأتيان يسألانه، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وصفهما: أنهما أسودان أزرقان اشتد ذلك على الصحابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم فزع من الملك مع أنه أتاه بالخير وبالرحمة، فما بالك من ملك لا بد أن يفتنك في قبرك، وأنت عندما تراه تذهل، وهو يقول لك: (من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) نسأل الله أن يثبتنا في القبر وفي الآخرة، وأن يرفعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
والمرة الثانية: رآه جبريل على صورته عند سدرة المنتهى.
المعجزات التي حبا الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم بها، توطئة لرسالته صلى الله عليه وسلم هي معجزات حسية ومعنوية، وهي أكثر من أن تحصر، وهذه المعجزات فاقت معجزات موسى وعيسى ونوح، بل وإبراهيم عليه السلام، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى التي حدثت له حدثت لأحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من التابعين وليس من الصحابة، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى هي أنه ألقي في النار ونجاه الله، فكانت الحبال تحترق وهو لم يمسه شيء، فلما قال: حسبي الله ونعم الوكيل: قال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69]، وهذا أبو مسلم الخولاني رحمه الله رحمة واسعة، أسره الأسود العنسي فقال المقربون لهذا الكذاب: إن بقي هذا الرجل سيفتن من عندك، لكن ألقه في النار، وكانت الفتنة أعظم وأعظم فألقاه في النار، فقال الله للنار: كوني برداً وسلاماً على هذا الرجل، فلما علم عمر بن الخطاب بهذه الحادثة بكى وقال: ليتني أرى من فعل الله به ما فعل بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
فهذه المعجزة الكبرى كانت مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قد جمع الله له كل المعجزات التي أوتيها الرسل، كل ذلك سنبينه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.