يصح للمرء أن يحتج بالقدر في أربع حالات: الأولى: عند المصائب، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11].
يعني: يؤمن أنها بقدر الله، فيقول قدر الله علي ذلك، ويهتدي إلى هذا.
ومن يؤمن بالله ويؤمن أن هذه المصيبة وقعت عليه وأنها بلاء من الله جل وعلا قال تعالى عنه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].
أي: يجعل قلبه مستسلماً لله جل وعلا ويعمره بالإيمان، إذاً احتجاج بالقدر على المصائب.
الثانية: يحتج بالقدر على الذنب إن تائب منه، فإن تاب يحتج بالقدر؛ لأن المرء دائر بين عينين: عين القدر وعين الشرع، فإن تاب من الذنب فهذا مأمور به شرعاً، ثم ينظر بعين القدر فيقول: الله جل وعلا قدر علي هذه المعصية ثم تاب علي بفضل منه ونعمة، فالله إن لم يوفقني لترك تلك المعصية فقد ختم لي بهذا العمل، فيشتد عبادة لله جل وعلا، وينظر أيضاً لحكمة الله أنه أنزل به هذا البلاء من فعله للذنب لينكسر أمام الله جل وعلا؛ لأنه إذا لم يفعل هذا الذنب قد يعجب بنفسه، وإذا عجب المرء بنفسه ووصل العجب إلى قلبه لم يدخل الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
الحالة الثالثة: أن تقع الخطيئة منه بغير إرادته، والدليل على أن المرء قد يقع في الخطأ دون إرادته: قتل موسى عليه السلام للقبطي، وقد قال بعد أن قتل {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15].
فهو لم يحتج بالقدر لكن له أنه يحتج به.
ودليل ذلك من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في الوادي نام، ونام الصحابة وكلفوا بلالاً أن يوقظهم، فغلبه النوم قدراً من الله جل وعلا لحكمة بليغة؛ وهي أن يبين للناس كيف يقضون الصلاة، فنام بلال ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواحنا بيد الله يقبضها وقت يشاء، ويرسلها ويبعثها وقت يشاء) فاحتج النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالقدر على ترك صلاة الجماعة وهو خطيئة، وإن كان بسبب، فله أن يحتج بالقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط) لكن ليس أي نوم، فلا يأتي شخص طيلة الليل إما سهران يتكلم مع امرأته في سمر لا فائدة منه، أو يقرأ كتاب قصص أو ملاهي، أو يلهو بالتلفون مع أخيه فيما لا مصلحة فيه، فيسمر بعد العشاء حتى يصل إلى منتصف الليل، ثم ينام حتى يصبح والشمس قد أشرقت، فهذا عاصٍ لله جل وعلا، ويخشى عليه.
وهناك قصة وقعت أيضاً بين الصحابة في نفس الأمر، فقد (طرق النبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة بالليل -والطروق هو الإتيان بالليل- ثم قال: ألا تصليان من الليل؟! فقام علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله! أرواحنا بيد الله يبعثها وقت ما شاء ويقبضها وقت ما شاء، وما نصلي إلا الفرائض، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم معه، مع أنه احتج بالقدر أمامه، فضرب على فخذيه وقال: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
وهذا موطن من المواطن الذي يحتج فيه بالقدر.
ومن المواطن أيضاً التي يحتج بها في القدر: إذا أخذ المرء بالأسباب، واستعان بالله، وحرص كل الحرص على ما ينفعه، ثم لم يصب الهدف، مثال ذلك: إذا كان لديه عمل معين، وهذا العمل يحتاج إلى أن يكون له سمات شخصية معينة ومهارة معينة، فاكتسب هذه المهارات والسمات الشخصية مثل العلم والحلم والصبر فتعلم هذه الصفات واكتسبها، ثم لما تقدم لهذا العمل لم يقبل، فهذا رجل له أن يحتج بالقدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك -يعني: خذ بالأسباب الصحيحة-واستعن بالله، ولا تعجز فإن أصابك شيء -بعد أن أخذت بالأسباب ولم يوجد منك تفريط- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان)، فللمرء أن يحتج بالقدر في هذه المواطن، فإذا حرص على ما ينفعه واستعان بالله جل وعلا وأخذ بكل الأسباب، ولم تصب معه فليقل: (قدر الله وما شاء فعل) فإذا قال ذلك: دخل الإيمان إلى قلبه، وكسب في الدنيا قبل أن يكسب في الآخرة.