سبب ظهور الإرجاء أنه كان رد فعل لتكفير الخوارج للحكمين ولـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس هو الإرجاء المتعلق بالإيمان، يعني: أن أول كلمة إرجاء ظهرت على الساحة كانت في القرن الأول الهجري، وأطلق هذا المصطلح على الحكمين وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، والحكمان هما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما اللذان انتخبا لفصل النزاع وفض الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فلما حصل ما حصل في شهادة الحكمين أرجأ أناس أمرهما إلى الله وعلى رأسهم الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، فـ الحسن لما سئل عن حكم الحكمين، أي: عن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري أرجأ أمرهما إلى الله عز وجل، وقال: أرجئ أمرهما إلى الله عز وجل، ومن هنا قيل لأول مرة: الإرجاء، أي: أن مذهب الحسن بن محمد بن الحنفية في الحكمين الإرجاء، أي: تأخير حكمهما حتى يحاكمهما الله عز وجل.
فالإرجاء الذي تقدم به الحسن بن الحنفية لم يكن له أدنى علاقة بالإيمان، وليس هو الإرجاء الاصطلاحي الذي ظهر بعد ذلك، وإنما كان عبارة عن تأخير الحكم على الحكمين حتى يحكم الله عز وجل فيهما.
والناظر إلى هذا الكلام لا يمكن أن يقول: إن هذا هو الإرجاء المذموم، بل هو الإرجاء اللغوي، أي: تأخير الحكم على هذين حتى يحكم الله عز وجل فيهما، وأما مصطلح الإرجاء فقد ظهر بعد ذلك واتخذ شكلاً آخر سياسياً، ثم شكلاً آخر شرعياً، وصار له أصوله وقواعده وأتباعه وجماعته وفرقته، ثم استقر مصطلح الإرجاء بعد ذلك على ما يسمى بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان وليس داخلاً فيه.
قال: فإن أول من تكلم في الإرجاء لم يكن كلامه إلا في إرجاء أمر المتقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل، وأول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى عام (99هـ)، وقد ذكر ذلك كل من ترجم له، فقال ابن سعد في كتابه الطبقات في ترجمة ابن الحنفية: وهو أول من تكلم في الإرجاء، ويذكر كذلك أن زادان وميسرة دخلا عليه، فلاماه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء، يعني: أن الحسن بن محمد بن الحنفية كتب كتاباً في الإرجاء، وعاب عليه زادان وميسرة لما دخلا عليه أن يكتب كتاباً في الإرجاء، فقال ابن الحنفية لـ زادان: يا أبا عمر! لوددت أني كنت مت ولم أكتبه.
ويبدو من كلامه هذا أنه تكلم في الإرجاء الاصطلاحي ولم يكن الأمر كذلك، وإنما تكلم فيه عن إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة الشيخين أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل.
وهذا المعنى أكده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه تهذيب التهذيب، فقال: وقد اطلعت على هذا الكتاب، والمراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه هو غير الإرجاء المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة، فهذا إرجاء وذاك إرجاء آخر؛ وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، وأخرجه ابن أبي عمر في كتاب الإيمان له، وقال في آخره: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس -يعني: الحسن عندما صنف هذا الكتاب في الإرجاء كان يأمر عبد الواحد بن أيمن أن يقرأه على الناس- وقال فيه: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، وذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية بكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله.
إلى آخر الكلام.
وهذا محل الشاهد، فقد قال: نوالي ونحب أبا بكر وعمر؛ لأن الأمة أجمعت عليهما، ولم يخالف في ذلك إلا الشذاذ من الشيعة وغيرهم، وأما عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص وما وقع من فتنة ومن هرج وقتل وإراقة للدماء وغير ذلك فلا نتكلم فيها، بل نكل أمرها إلى الله عز وجل يفصل فيها بما يشاء.
وبلا شك فإن هذا هو الإرجاء اللغوي وليس الإرجاء الاصطلاحي المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة والجماعة، والذي مفاده تأخير العمل عن مسمى الإيمان.
قال: فهذا هو الإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد، وقد أكد