جاء في الحديث: (من حلف فاستثنى -أي: في يمينه- لم يحنث) أي: لو قال رجل: والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإن لم يفعل فلا حرج عليه ولا كفارة، لأنه علق الفعل على مشيئة الله عز وجل، فهل يجوز لمسلم أن يقول: أنا مؤمن بغير أن يعلق هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، أي: بغير أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟ هذه المسألة أخذت مآخذ وردوداً عند أهل العلم قديماً وحديثاً، وهذه القضية فيها أربعة مذاهب: المذهب الأول: وهو مذهب الأحناف قالوا بحرمة الاستثناء، أي: أنه لا يجوز عند الأحناف أن يقول المؤمن أو المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله، أو تعليق الإيمان على المشيئة، وهذا الحكم جرياً عندهم على أن الإيمان هو التصديق أو القول، وهذا هو مذهب الجهمية من قبلهم.
فقالوا بحرمة الاستثناء، لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، أو هو قول اللسان، ويقولون: هذا التصديق لا يتصور نزوله إلا إلى الكفر البواح، وأن التصديق عندهم لا يقبل الزيادة والنقصان، ولذلك هم يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن الإيمان عندهم تصديق، كما أن الإيمان عند الجهمية قول باللسان وقد قال، أي: قد نطق بالشهادتين وقال: أنا مؤمن بالكتاب والسنة وغير ذلك، فلا يتصور الرجوع عن هذا القول باللسان ولا ترك الاعتقاد القلبي أو التصديق عند المرجئة إلا من باب الشك.
ولذلك يقولون: من استثنى في الإيمان فإنما مرده إلى الشك في إيمانه، ولذلك يسمون أهل السنة الذين يقولون بوجوب الاستثناء بأنهم شكاكون، وهذا المصطلح معروف في كتب الاعتقاد التي صنفها المرجئة والجهمية، لأن الإيمان عندهم تصديق وقول أو تصديق أو قول، وقد قالوا وقد صدقوا، فلا يشكون ولا يعلقون هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، لأنه قد وقع منهم حقيقة، فلماذا يعلقونه إذاً؟ المذهب الثاني: وهو مذهب عامة السلف يقولون بوجوب الاستثناء، وهذا يعتبر مذهب مناقض للمذهب الأول، فالمذهب الأول يقول بحرمة الاستثناء، وهذا المذهب يقول بوجوب الاستثناء.
وهذا المذهب اعتمد على اعتبارين: الاعتبار الأول: أن الإيمان هو ما يُختم به للمرء لا ما يحيا به، فالعبرة عند عامة السلف في الإيمان بما يُختم للعبد به، وهذا في المستقبل.
فربما عاش العبد في إيمان فيما يبدو للناس وخُتم له بغير ذلك، كما في حديث عبد الله بن مسعود (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
فالأعمال بالخواتيم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، والإيمان عمل قلب وعمل جوارح، وإذا كانت هذه الأعمال بالخواتيم فإن الإيمان إنما يُحكم به للعبد إذا خُتم له بذلك، والعبد لا يعلم ذلك من نفسه؛ لأن هذا أمر سيكون في آخر حياته، فكيف يتعرف عليه العبد؟ فهم يقولون: لا بد أن يقول العبد: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: إن قدر لي ذلك في المستقبل وختم لي به، وإلا فأنا لا أعرف شيئاً.
الاعتبار الثاني بهذا المذهب: هو أن عدم الاستثناء تزكية للنفس، وشهادة لها بأنها من الأتقياء الأبرار.
فلو قال عبد: أنا مؤمن، فكأنه يقول: أنا من أهل الجنة، مع أن بعض الصحابة رضي الله عنهم رغم أنهم مبشرون بالجنة كانوا يخافون أشد الخوف على أنفسهم من النفاق في أعمالهم وأقوالهم، وقد ورد هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا يعني أنهم لا يأمنون مكر الله عز وجل، ولا يعرفون ما يُختم لهم به، ولذلك قال عامة السلف أن الاستثناء في الإيمان واجب من باب الهروب من تزكية المرء نفسه.
وعلى العبد أن يأتي بجميع المأمورات وأن يكون قد ترك جميع المنهيات، وأن عبداً ما ليس في وسعه أن يفعل هذا كله، فالعبد الكامل الإيمان إنما هو الذي حقق المأمورات وترك المنهيات، ومن من الناس لم يقع في معصية؟ أو لم يترك أمراً أمر الله عز وجل به أو أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؟ فإذا كان أحدنا فرط في الأمر أو اقترف النهي، فكيف يزعم أنه مؤمن كامل الإيمان حينئذ؟ إذاً: عندنا مذهبان: مذهب يقول بحرمة الاستثناء وهو مذهب المرجئة والجهمية.
والمذهب الثاني وهو مذهب عامة السلف: القائل بوجوب الاستثناء تحقيقاً لمخافة الله عز وجل وخشيته، وهروباً من تزكية المرء نفسه، وكذلك هروباً من الشهادة لنفسه بأنه من الأتقياء الورعين المتقين.
والمذهب الثالث: يذهب إلى التفصيل، فإن صدر الاستثناء عن شك في أصل الإيمان فهذا بلا شك حرام بل كفر.
فعندما يسألك سائل: هل أنت مؤمن؟ تقول: أنا لا أعلم ذلك من نفسي هل أنا مؤمن أم لا وما معنى الإيمان؟ فإنه إذا صدر جوابه هذا من باب الشك في الإيمان وأصوله فلا شك أنه كافر.
وإن صدر استثناؤه في الإيمان من باب التورع عن التزكية والشهادة فهو واجب مخافة الوقوع في التزكية وإثبات أنه من المتقين أو الأبرار أو من أهل الجنة.
المذهب الرابع: هو التوقف واعتبار أن توجيه مثل هذه الأسئلة بدعة في الدين، ولذلك أنكرها كثير من السلف كالإمام